إن كان الاستقصاء معنى من المعاني لا يتصوَّر متجسِّداً، ولا يُدرك بالحواس متحسَّساً، وكذلك هي أسماء المعاني غير مدركة الكيان بخلاف المحسَّات (المحسوسات) الَّتي تدرك بالحاسَّة، فهي ذات متجسِّدة، وعين متجسِّمة، وجثَّة متحقَّقة، وهذا شأن المعاني وحال الأعيان فإنَّ له شأنا آخر هنا.
فالاستقصاء هو بذل أوجه الوسع للوصول إلى الأقصى والأبعد عن المستقصَى عنه، والاستقصاء بالألف واللام معنيٌّ به معهوداً في الذِّهن، وربَّما يُقال فيه: إنَّها اللام الكماليَّة: أي: الاستقصاء الكامل التَّامُّ. وأيًّا ما يكن الأمر فماذا يقال أو سيقال عن شأن استقصاء الاستقصاء؟!
إنَّ الاستقصاء بل استقصاء الاستقصاء هو سمة أستاذ أساتذتنا بل كبير الأساتذة شيخنا الأستاذ الدُّكتور: عبدالله بن حمد الخثران، وهو أستاذ لي في مرحلتين التَّعليم الجامعيِّ والعالي، فتتلمذت له في (البكالوريس)، وكنتُ من طلابه في الدَّراسات العليا (الماجستير: 1428هـ/ الدُّكتوراه: 1432هـ)، وقد كان بين المرحلتين ما قارب عشر سنين أو بلغ.
وأوَّل معرفتي بشيخنا الجليل عندما دخل علينا أستاذاً لمقرَّر الصَّرف أظنُّه في المستوى الرَّابع؛ أي: في رحاب العام الجامعيِّ (1416-1417هـ)، ولقد أعجبت من طريقة عرضه وشرحه ونبرة صوته، والتَّنغيم الَّذي يزاوجه به صوته؛ إذ كان يعلي صوته حيناً ويخفضه، ويلجلج به حيناً كحال المتشدِّق أو الرَّافع عقيرته ليوصل بذلك لسامعه ما يريد، وإن أنس لا أنسَى صوته الأجشَّ يقرأ لنا قاعدة أو نصًّا فيه أمرٌ ما يحتاج إلى التَّنبيه والحرص عليه، والنَّظر فيه لدرك مرامه أو فَكِّ مقصده فإن أسعفت الذَّاكرة فإنِّي أستذكر لمَّا أن كان يردِّد علينا من كتاب (أوضح المسالك) لابن هشامٍ ما ذكره من قول المطرِّزيِّ عن عوامِّ المحدِّثين، وكيف ينطقون (فآتزر)، وذلك قول ابن هشامٍ:» [قال المطرِّزيُّ]: وعوامُّ المحدِّثين يحرِّفونه فيقرؤونه بألفٍ وتاء مشدَّدة، ولا وجه له». [أوضح المسالك: 4/ 241]
وهو بهذه الطريقة يذكِّرني بما كان يفعله أيضاً شيخنا الشَّيخ: عبدالعزيز بن عبدالرَّحمن الشَّعلان شيخ البلاغة وأستاذها متَّعه الله بالصَّحة والعافية إذ كان يردَّد علينا بصوت صادحٍ عالٍ فصيح بنغمة متمهِّلة كالمتشدِّق به: «وكلُّ استعارةٍ مكنيَّة فقرينتها استعارة تصريحيَّة»، وكان الكتاب حينذاك:(الإيضاح) للخطيب القزوينيِّ وعليه حاشية الصَّعيديِّ (البغية)، فبارك الله في الشَّيخين، وجزاهما الله خيراً خير ما يجزي شيوخاً عن تلاميذهم.
وعوداً على أستاذنا د. الخثران فقد كان وقتها أنشط ممَّا هو بعد حينما جاءنا في الدِّراسات العليا، وكان يذكر لنا أخباره مع التَّعلم والتَّعليم، وكان ممَّا ذكره لنا أنَّه عندما يخرج من الكليَّة- وكانت الدِّراسة آنئذاك في الكليَّة والجامعة كلِّها تنتهي بحدود السَّاعة الثَّانية عشرة والنِّصف (30: 12) ظهراً- فعندما يخرج منها يتَّجه إلى مكتبة جامعة الملك سعود، وكانت مكتبتها ضخمةً عامرة، وفي جامعة الإمام أيضاً مكتبة كبيرة عامرة هي المكتبة المركزيَّة، غير أنَّ مكتبة جامعة الإمام تراثيَّة السَّنخ في الأغلب الأعمِّ، وأمَّا مكتبة جامعة الملك سعود فكانت أكثر تنظيماً وعناية بالرُّواد وتقديم الخدمات لهم، وكانت تفد إليها الدَّوريَّات، والمجلاَّت العلميَّة، ومجلاَّت المجامع اللغويَّة، وتردها مجلاَّت بعض الجامعات في السُّعوديَّة ومن خارجها؛ لذا كثر وفود طلاَّب المعرفة عليها، فكثر روَّادها وحقَّقت أهدافها= يقول شيخنا د. الخثران : إنَّني أخرج من جامعة الإمام ظهراً متَّجهاً صوب مكتبة جامعة الملك سعود، أمكث فيها وأقيم متصفَّحاً الدَّوريَّات، ومتى ما وقعت على عنوان يخصُّ تخصصي يعني به: النَّحو والصَّرف فإنَّني أقوم بتصويره، وكانت جامعة الملك سعود مجهِّزةً طابعاتٍ رقميَّةً في مكتبتها للتَّصوير تعمل ببطاقة تُشحن تُشترَى من عند مدخل المكتبة أو من ردهة استقبال المكتبة، وفيها عدد الأوراق الَّتي تصوِّرها قدرها (100 ورقة) أو تزيد، وكلَّما نفدت تشحنها من عندهم، وتعمل في أيِّ وقتٍ من ليلٍ أو نهارٍ، ويقول شيخنا: إنَّني أصوِّر هذه البحوث، وأجمعها وأصنِّفها في البيت إذا عدت، ويقول إنَّه لا يعود إلى بيته العامر إلاَّ مع صلاة العشاء.
وهو بهذا القول يحثُّ طلابه على مواكبة جديد العلم وجديد البحث كيما لا يكون أحدهم تراثيًّا منغلقاً يعيش في غير وقته منقطعاً عن عصره، ولا يعلم ماذا أحدث في زمنه فيما أنت متخصِّص فيه، وأنت تعيش في الزَّمن نفسه، فهذا عند الشَّيخ معيب، بل يجب على المتخصِّص أن يكون غير مغيَّب عن حاضره وواقعه وما يقال فيه عن تخصُّصه وما يبحث ويكتب في مجاله، ولا يكتفي بما قاله المتقدِّمون ويعيش في أعصارهم وهو ليس من أهل تلك الأعصار، فيدرك قالة المتقدِّمين ويستبصر قراءات المحدثين.
وهذا العمل من شيخنا وهذا الحديث منه كان دافعاً وحافزاً لنا في الحرص على الورود على المكتبات والنَّهل ممَّا فيها ويرد إليها والعلُّ منه مثنى وثُلاث، فكان ما يقوله دافعاً لنا، فأقبلنا على المكتبات في جامعتنا وجامعة الملك سعود، ومكتبة الملك عبدالعزيز، والمكتبات التِّجاريَّة ومكتبات الورَّاقين، وما كان ذلك ليتحقَّق من قِبلنا أعني الطَّلاب لولا تلك الأحاديث المباركة من فضيلة شيخنا د. الخثران.
ولمَّا أن انتظمت في صفوف طلبة الدِّراسات العليا في قسم النَّحو- وكنت قبلها أمضيت عشراً سنيناً معلِّماً في التَّعليم العامِّ- إذا الأستاذ الدُّكتور: عبدالله الخثران يحلُّ علينا أستاذاً لمقرَّرَي (تاريخ النَّحو، وأصول النَّحو) في مرحلة (الماجستير) فهاجت بي الذِّكريات لسابق اللقاءات، وبعد ذلك جاءنا فضيلته في منهجيَّة (الدُّكتوراة) أستاذاً لمقرَّر النَّحو فكانت عطفاً على ما سبق باعتصار خبرة السِّنين، وكان مدارسته للنَّحو معنا عن الظَّواهر النَّحويَّة كالعامل والتَّقديم والتَّأخير، ونحوهما.
عوداً أقول ها هي تعود مجالسنا مع شيخنا من جديد، غير أنَّ السِّنين قد عملت بالشَّيخ عملها، فبانت منه الشَّيخوخة أكثر من ذي قبل، وإن كان منتصب القامة واثق الخطوة إذا مشى، لكنَّ كرَّ السَّنين له أثر على الشَّخص والجسد، وكان إذ ذاك فضيلته في أواخر السَّبعين أو ولج الثَّمانين فيما أحسب وأظنُّ، والشَّيخ د. الخثران من الجيل الأوَّل المتعلِّم من حملة الدُّكتوراه في بلادنا، وكانت دراسته العليا بمصر، وهو أستاذ أجيال.
ولعلِّي لا أكتم خبراً إن قلتُ إنَّ من تلاميذه الشِّيخ د. عبد الله المطلق عضو هيئة كبار العلماء، ويلاطفنا بذلك د. الخثران عن الشَّيخ المطلق فهما يتكتَّمان الخبر لئلا يكبِّر أحدهما الآخر.
وكان من اللطائف أنَّ شيخنا يوصينا أنَّنا إذا كتبنا شيئاً أن نكبِّر خطَّنا في الكتابة، وذلك أنَّ الشَّيخ كان يعاني لمَّا يرغب في أن يقرأ علينا ممَّا كتبه في دفاتر قد كتبها في وقت شبابه ونشاطه، وربَّما مرَّ عليها (30) ثلاثون عاماً أو يزيد. وكان يشكو من ضعف بصره الآن، وأنَّه أصبح لا يبصر إلاَّ بربع عينٍ، فيعسر عليه قراءة المكتوب لصغر كتابته متَّعه الله بالصَّحة والعافية.
وكان شيخنا يمتاز بالاستقصاء، وذلك أنَّه في مسألة ما كمثل مسألة التَّقديم والتَّأخير عند النَّحويَّين، أو التَّقدير مثلاً يذكر ما قاله سيبويه ومعاصروه وتلامذته، ثُمَّ بعد ذلك المبرِّد وأترابه، فأبي عليٍّ وأساتذته كالزَّجاج وابن السَّراج وتلاميذه كابن جنِّي، ثُمَّ للأنباريِّ فالزَّمخشريِّ، ثُمَّ يفيض في علماء الأندلس، ويخلص إلى ابن مالكٍ ثُمَّ أبي حيَّان فابن هشامٍ وابن عقيلٍ، ويعرِّج على النَّحويَّين المحدثين كالأشمونيِّ والصَّبان، فأهل العصر الحديث كمجمع اللغة العربيَّة وأساتذة الجامعات الرُّواد، ثُمَّ أقوال الأساتذة تلاميذ الرُّوَّاد، ومَن خَلَفهم من تلامذتهم من المعاصرين= كلُّ ذلك بقدرة عجيبة في الاستقصاء حتَّى إنَّني سمَّيت ذلك بـ(استقصاء الاستقصاء) فهو خير مثال ينطبق على شيخنا د. الخثران.
وممَّا يمتاز به أنَّ له مشاركات عديدة في خدمة المجتمع من إقامة الدُّروس النَّحويَّة في المساجد والجوامع متى ما طُلِب منه في ذلك واجتمع عنده الصَّادق من الطَّلبة ممَّن يرغب في دراسة النَّحو، ويدرِّسهم بأسهل أسلوبٍ وأيسر مثالٍ.
وأستاذنا د. الخثران من المشاركين في تأليف كتب النَّحو للمرحلة المتوسِّطة في المعاهد العلميَّة التَّابعة لجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
وأختتم بطلبٍ ورجاءٍ وأمنية أرجو أن يتحقَّق، وذلك أنَّ الشَّيخ وهو يناهز التَّسعين أو بلغها، فقد اجتمع في مكتبته ولديه من الكتب والدَّوريَّات والمصوَّرات الشَّيء الكثير، وكذلك ما جمَّعه ممَّا كتبه في دفاتره من استقصاء وآراء= كلُّ هذا يخشى عليه من الضَّياع، وهذا الجهد السَّبعينيِّ أعني جهوده الَّتي مرَّت عليها سبعون سنة وهو يجمع فيها أن تذهب هذه الجهود هباءً، ويختفي برحيل شيخنا أطال الله في عمره وأمهل له وبارك فيه.
وذلك أنَّ الأبناء وإن كانوا بارِّين بآبائهم ووالديهم إذا كانوا غير متخصِّصين بتخصُّص والدهم لا يحفلون بما كتبه، ولا يعيرونه شيئاً ذا بالٍ، فلا يدرك قيمة الشِّيء إلاَّ مَن يعرفه ويحسنه من أهل تخصُّصه، وأنا -علم الله -لا أعلم عن أبناء الشيخ شيئاً ولا عن تخصُّصهم لكنَّه تخوُّف أبديه، إذ مكتبة الشَّيخ عامرة ملأى بالثَّمين والسَّمين، والحال المعهودة أنَّه بعد رحيل صاحب المكتبة أنَّ الكتب تبتاع، والملازم والدَّفاتر والمصوَّّرات تهمل وترمى، ودفاتر الشِّيخ هي جهد السِّنين، وملازمه ومصوراته هي خلاصة الانتخاب، ولا شك أنَّ آلة الزَّمن قد فعلت بمدوناته الأفاعيل، وعليه فلن يعتنى بها ولا يعرف قيمتها وهي بهذه الحال غير أهل الاختصاص.
وطلبي ورجائي وأرغب إلى كليَّتنا بل إلى قسمنا قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة العريق أن يقوم بتشكيل لجنة مكوَّنة من القسم وتكليفها بمثل ذلك حفظاً لهذا المكنز الثَّمين، وأن تقوم اللجنة بالتَّنسيق مع فضيلة الشَّيخ بزيارة مكتبته ومراجعة ما فيها وحصره، وتدوينه حاسوبيًّا وفاءً بحقِّ كبير الأساتذة، والسَّعي في طباعته من قبل الجامعة إن تيسَّر ذلك؛ فيبقى عملاً يحمد القسم عليه، وحفظاً لجهد الشَّيخ من الضَّياع، وأجراً مستقبىً ممتدًّا لشيخنا مدَّخراً، فليت القسم ينشط لذلك ويا ليت أنَّ هذه الطِلبة تتحقَّق.
وأظنُّ جازماً أنَّ ذلك ممَّا سيسرُّ به شيخنا غاية السُّرور، حينما يعلم أنَّ جهده الَّذي أجهد نفسه به، وكلَّت عيناه لأجله حتَّى لا يكاد يبصر إلاَّ بربع عينٍ، أن يراد لجهده ذلك وما جمَّعه وصوَّره الحفظ والاستبقاء.
أرجو أن يكون لهذا الطلَّب صدى، وأن يكون لهذه الصَّرخة رجع. والله ولي التَّوفيق.
متَّع الله كبير الأساتذة: أ د. عبدالله بن حمد الخثران بالصَّحة ومنَّ عليه بالعافية، وأمهل في عمره، وأمتَّعنا وذويه وطلاب العلم بمهجته ومحيَّاه، ويسَّر له كلَّ عسير، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خيراً لقاء ما قدَّم في سني عمره المديدة للعلم وأهله، وجزاه الله خيراً جزاءَ العلماء المخلصين والأساتذة النَّاصحين. والحمد لله ربِّ العالمين.
** **
د. فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح - كليَّة اللغة العربيَّة/ جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.com