استطاعت الأجيال المتتالية الحصول على تاريخ ما قبل «الحضارة» من الأساطير المتوارثة المحفوظة في «الذاكرة الجمعية». وكانت تلك الأساطير قد قيلت على شكل «شِعْر». ولم توثق الأساطير تلك كتابةً، إلا في زمن الخط المسماري إبان الحضارة البابلية.
هذه الحقائق تشير بوضوح إلى أن الموسيقى الشعرية تحفر لها مكاناً في «الذاكرة». وعلى الأرجح كانت تلك «الأساطير الشعرية» مصحوبةً بألحان، مما يضيف موسيقى نوعية جديدة لدعم «الذاكرة»، ولكن للأسف الشديد لم تكن النوتة الموسيقية وكتابتها قد ظهرت إبان الحضارة البابلية. لا شك أن الكثير من الأساطير قد اندثرت باندثار الشعوب التي تناقلتها حفظاً، ولكن ما وصل إلينا يلقي بعض الضوء على تلك العصور الغابرة.
بيد أن «الذاكرة» ليست حفظاً وحسب، بل هي الأرضية التي يستند لها الفرد والمجتمع لبناء الفكر والمعرفة والموقف الاجتماعي! ولذلك أصبح تنشيط الذاكرة بالموسيقى أو الفنون الأخرى، هو جزء أساسي من التعليم المدرسي في الدول المتقدمة.
قد يقول قائل إن الذاكرة كانت أقوى لدى الأجيال القديمة منها لدى المعاصرة! فابن عباس رضي الله عنه كان يضع إصبعيه في أذنيه عندما يمشي في الطريق، كي لا يحفظ كلام امرأة توبخ ولدها ويحفظ كلامها، بينما لا توجد مثل هذه الذاكرة القوية في عصرنا الحالي!
السبب في ذلك هو: أن ابن عباس عاش في زمن لم يكن فيه من يقرأ ويكتب سوى النزر القليل، وكانت المعلومة مقتصرة على الذاكرة. وإذا اختزلنا «الذاكرة» بالحفظ فقط؛ فلا شك أنها كانت أقوى سابقاً؛ ولكن إذا تناولنا كل جوانب الذاكرة؛ وخاصة الناحية المعرفية؛ نجد أن الذاكرة تنشط وتتسع عبر الأجيال. فجيل ابن عباس لم يكن يعرف حتى الجزء اليسير من المعرفة، التي يحملها خريج مدرسة ابتدائية في عصرنا. كما أن تطور وسائل توثيق التجربة الفردية والجماعية قد تطورت بشكل يغني عن حفظ نصوص تحتل مكاناً في الذاكرة.
الغريب في الأمر أن معظم الأشخاص الذين أعرفهم يعتقدون جزماَ أن ذاكرتهم ضعيفة! وفي نفس الوقت تجدهم يحفظون الكثير من «الأغاني» و»القصائد» و»النوادر» ما يحيي جلسات السمر!
قال لي أحد الأصدقاء مرة: أنا أشعر بأن ذاكرتي قد ضعفت؛ لأنني كنت أحفظ جزأين من القرآن؛ والآن لا أتذكر حتى جزءا واحدا.. فسألته: متى حفظت الجزأين؟.. أجاب: عندما كنت في المدرسة المتوسطة!.. فقلت: أنت الآن خريج جامعي ودراسات عليا؛ وبالتأكيد تعلمت ومارست الشيء الكثير مما تعلمته؛ فهل تريد من ذاكرتك أن «تحتفظ» بكل ما تعلمته ومارسته؟ هل تريد من ذاكرتك أن تكون كمبيوترية؟.. ضحك من سؤالي ولم يفتح الموضوع ثانية.
الأجيال الجديدة أقدر منا نحن على استيعاب مضمون الذاكرة، فهم لا يخجلون من النسيان كما تربينا نحن، بل يعلمون علم اليقين أن الذاكرة ليست «أرضية جامدة» للفكر والعمل والهم الاجتماعي، ولابد من تجديدها وإعادة إنتاجها باستمرار. وذلك للتكيف مع متغيرات الحياة الفردية والاجتماعية.
** **
- د. عادل العلي