حاوره - جابر محمد مدخلي:
أخذه الأدب من شغاف قلبه فأرسله إلى خدمته: إبداعًا، وإعلامًا، وصحافةً، فنشرًا. تشكّلت لديه منذ البدايات عُصارة تجربة إبداعية ديناميكية أنجزت ما لم تنجزه المؤسسات. أديب مرة، وأخرى مبدع، وثالثة تجمع بينهما نقدًا، وبحثًا، ودراسةً وتفصيلاً.
تعالقت روحه بالجميع فتعلّقوا به، وصار طموحه المريخ فصعد إليه عبر دار نشرٍ بدأت فقفزت ثم صارت علامة فارقة في المشهد الثقافي السعودي والعربي؛ حيث إنها نشرت العديد من المؤلفات، والترجمات، وأظهرت وجوهاً شابة في زمانه نكاد نجد اليوم معظمها ممسكة بزمام الأدب والثقافة بمشهدنا السعودي، ولها أصوات مؤثرة، ولأقلامها إبداع وفير.
الأديب عبدالله الماجد الذي أفرغ عمره بأكمله بين أعلى ما ذكرته وأكثر مما يعجز الكاتب عن كتابته عنه، وعن سيرته ومسيرته.. ولأن مرحلته مغدقة، ورحلته متسعة تقدم الجزيرة الثقافية عن تجربته ومسيرته هذه المقدمة وتلتقيه بحوار متسع يُبحر بنا من خلاله إلى الأمس.
- الماجد ورئاسة تحرير الملحق الأدبي في صحيفة الرياض.. حقبة صحفية مبهرة.. فما الباقي في ذاكرة أديبنا من حقبتها حتى الآن؟
- أهم ما يشعرك في تلك الحقبة من الزمن أن جميع المنتسبين للعمل الصحفي، ومنه الصحافة الأدبية، كانوا يعملون باندفاع وحماس، الرغبة في عمل شيء محسوس، يتنافسون في الإبداع دون كلل كأنهم جياد مطلقة في مضمار السباق، ودون أن يلتفتوا لعائد مادي. كانت مكافأتهم أن تُنشر أعمالهم ويقرأها القراء؛ ولذلك فقد علموا أنفسهم بأنفسهم، فأسسوا لأجيال قادمة وأثروا المناخ الأدبي والصحفي ثراء لا يُنسى، وهو الباقي في ذمة وذاكرة التاريخ، وأن تلك الحقبة قد مهدت للحداثة في الأدب في محيطنا الأدبي المحلي وأشرعت الأبواب لتلك النقلة. كان الملحق الأدبي معاصراً ومتابعاً لمتغيرات العصر الأدبي.
- الصحافة مرة أخرى، وتحديداً «أسبوعيات البلاد»، عُرف عنك رفع سقف طموحات القارئ النهم وتحقيقها له بالفعل.. فما المصدر الحقيقي لكل هذا العطاء؟!
- جريدة البلاد في فترة رئاسة الراحل عبد المجيد شبكشي كانت تشكل طموحاً وسقفاً عالياً لأي كاتب أن يكتب في البلاد، فمعظم كتابها من كبار الكتاب والرواد مثل محمد حسين زيدان، وأحمد قنديل، ومحمد حسن عواد، وضياء الدين رجب، وعبد الله عريف، وعبد الله مناع، وعزيز ضياء، وغيرهم من القامات الأدبية الرائدة. ومن أكون أنا الصحفي والكاتب المبتدئ حتى أضع اسمي بين هؤلاء الرواد ولم أكن قد تجاوزت العشرين عاماً. ودفعني طموحي إلى محاولة الكتابة لأسبوعيات البلاد وقد يُرحب بي إذا كانت مواضعي في مستوى النشر وقد يُرحب بي لأنني من المنطقة الوسطى جغرافياً فلم يكن من كتاب البلاد أحد من هذه المنطقة يكتب في الأسبوعيات في ذلك الوقت. من هنا بدأت الكتابة وإرسال ما أكتبه إلى رئيس التحرير مباشرة، دون سابق معرفة شخصية، وقد حرصت على أن تكون موضوعاتي عن قضايا حديثة في الأدب والفكر، فكتبت عن قضايا الشعر المعاصر ومدارسه الحديثة وربطها بالتجديد في الشعر الحديث (الحر)، وعن شعراء المهجر، وأبو القاسم الشابي. وقد كانت مفاجأة عندما نشر أول موضوع لي، اعتبرت ذلك بمثابة اعتراف بأنني كاتب يخط أولى خطواته المعترف بها من هذه القلعة الصحفية الشامخة بكتابها. وسافرت إلى جدة وحرصت على مقابلة الأستاذ عبد المجيد شبكشي في مكتبه، وحينما دخلت إلى مكتبه قدمت نفسي له باسمي. وبدأت عليه علائم الاستغراب، فقال بتلقائية مباشرة: مين مين أنت عبد الله الماجد الذي يكتب عندنا؟! قلت نعم، فقال (اجري يا ولد أنت بتضحك علينا)، وضحك وتهلل فرحاً بي بعد أن تعارفنا وقال كنت أظنك يا ابني رجل عجوز. وأثناء تلك الفترة بدأت علاقتي بالشموخ في أسمى معانيه خُلقاً وثقافة وكل المعاني الإنسانية تجلت فيه، إنه أستاذي وأستاذ الأجيال محمد حسين زيدان - رحمه الله -.
أما مصادر الكاتب لكي يستمر في العطاء فهي متعددة أهمها: أن يكون مطبوعاً والتجربة الحية المستمرة، والاطلاع الواسع وأن يكون مسكوناً بنهم القراءة ومحاورة العقل.
- كانت لك علاقة وطيدة ومحبة عامرة بالشاعر والصحفي عبد الله بن حمد القرعاوي، الذي كان - يرحمه الله - يتحاشى الأضواء، ومقلاً في كتابة الشعر.. حدثنا عن تلك المرحلة.
- أشكرك أن تذكرت الراحل عبد الله القرعاوي ومرحلته، فهو واحد من الرواد في مجالات متعددة: في الأدب والشعر، وفي الصحافة، وفي الإدارة، ومع أنه شاعر مطبوع ترجم له الأستاذ عبد الله بن إدريس في كتابه «شعراء نجد المعاصرون» ونشر له مختارات من شعره، لكنه لم يستمر في معاقرة الشعر، وهو على المستوى الإنساني، نوع من الندرة الإنسانية، في تعامله سمت من الرقي الإنساني الخلاق، بدأت علاقتي معه، بعد أن التحقت بالعمل في مؤسسة اليمامة الصحفية في مجلة اليمامة وجريدة الرياض. كان هو المدير العام للمؤسسة، وكان يُعيرني المجلات العربية التي لا تصل إلا بالاشتراك للمؤسسات الصحفية من مصر، مثل المصور وصباح الخير وروز اليوسف، ومجلة الآداب من بيروت، بل كان يُعيرني كتب أنيس منصور وكمال الملاخ، ويقول تجد في هذه الكتب الأساليب الصحفية في الكتابة. ومن حسن حظي أنني أعمل معه في الصباح في جامعة الرياض «الملك سعود حالياً» كان هو مدير عام الإدارة في الجامعة، فهو رئيسي في الصباح حيث كنت أعمل في إدارة النشر بالجامعة وفي مكتب مدير الجامعة، ورئيسي في المساء في مؤسسة اليمامة الصحفية. وطالما لك الفضل في تذكره فإنني أدعو من منبرك هذا إلى الاحتفاء بذكراه وتكريم اسمه فهو من الرواد ويستحق التكريم.
- قبل أشهر فقدنا صحفياً وإعلامياً من أعز مجايليك هو الإعلامي القدير الأستاذ محمد الوعيل - رحمه الله - متى التقيتموه أول مرة؟ وما الانطباع الذي تركه فيكم ذلك اللقاء؟
- حينما بدأت في العمل مع الأستاذ محمد الشدي رئيس تحرير مجلة اليمامة في مطلع التسعينيات الهجرية كان الراحل العزيز محمد الوعيل يعمل في القسم الرياضي في جريدة الرياض مع الراحل الأستاذ تركي السديري. وفي ذلك الوقت كانت الصحف التي تصدر في الرياض هي: اليمامة والرياض والجزيرة وبعد ذلك الدعوة في مبنى مطابع الرياض في حي المرقب، وهي شركة مستقلة ليست للصحف فيها ملكية. وكانت جميع تلك الصحف في دور واحد من المبنى. فكنا بمثابة فريق صحفي واحد مع اختلاف مسميات الصحف. وكان محمد الوعيل من بين المحررين نسيجاً وحده، هادئ الطبع، وله سمت عالٍ من الخلق، نبيهاً وواعداً، الابتسامة تعلو محياه في كل آن. تعلم في الميدان الصحفي بسرعة، ثم انتقل للعمل في الجزيرة مع الأستاذ خالد المالك، وعثمان العمير. وبرز أكثر في مناخ الجزيرة وأشرف على كثير من الصفحات، وأجرى العديد من اللقاءات المميزة مع العديد من شخصيات ورجالات البلاد في كل التخصصات، وأذكر أنه جمع تلك اللقاءات في كتاب، ثم أصبح رئيساً لتحرير جريدة اليوم، وشهدت معه تطويراً في العمل الصحفي. كان محبوباً من الجميع.
- محمد حسين زيدان، طاهر زمخشري، اسمان رائدان في مشهدنا الثقافي، ارتبطت بهما ثقافياً في زمن مضى.. فما مدى تأثيرهما في حياتك الأدبية والصحفية؟
- لقد خلق الله للراحل الإنسان محمد حسين زيدان قلباً يتسع لمحبة الناس كان كائناً من الوشائج الإنسانية البشرية. أما على الجانب الثقافي فهو موسوعة دائرة معارف لكل العلوم والفنون، يُحدثك في أي شيء، وقد وهبه الله سعة من العلم لكل فن. لقد هجّن كل الثقافات والعلوم لطريقته المميزة في الإلقاء وهو موهوب في هذا الفن. أو لطريقته في الكتابة، وهو عادة يُملي شفاهة، له عبارة مجنحة وممسوقة، جملته كأنها تحاول الفرار من بين الأسطر وتطير، لقد قلت له ذات مرة مثل هذا الكلام، فملأت الابتسامة وجهه المطبوع محبة ونقاء، فقال: لا تبالغ يا ولدي في محبة أستاذك.
بدأت علاقتي المباشرة وعن قرب مع الراحل الأستاذ زيدان، بعد أن أسندت إليه رئاسة وإصدار مجلة الدارة، بحث عني وطلب أن أشترك في تحرير المجلة فلم أتردد، قبلت، وكنت لا أزال في جريدة الرياض مسؤولاً عن القسم الثقافي الذي يصدر عنه الملحق الأدبي في أربع صفحات، كأول ملحق أدبي بهذا الحجم من الصفحات، ثم بعد ذلك مديراً لتحرير جريدة الرياض. ولم تنقطع صلتي بمجلة الدارة، وقد أسندت إليّ أمانة الدارة بالنيابة. وقد شاركت مع الأستاذ زيدان في مؤتمرات دولية عن تاريخ الشرق الأوسط، فهو عضو في مجلس إدارة الدارة شارك في مؤتمر تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة عين شمس بالقاهرة، وفي مؤتمر مماثل في جامعة كيمبريدج في بريطانيا، وكان لا يتردد في أن يدفع بي إلى حضور المحافل المهمة معه. ذات يوم في جدة فاجأني دون سابق علم، أخذني معه إلى مجلس خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - في مكتبه بالحمراء بجدة. وكان في ذلك الوقت ولياً للعهد. لقد كانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لي. كان الأستاذ زيدان لا يتردد في بذل العطاء الإنساني ومحبته الطاغية.
في مؤتمر الأدباء السعوديين الأول، الذي نظمته جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة في النصف الأول من عام 1394هـ، شاركت فيه ببحث عن بدايات الشعر الحر تاريخياً، وكانت القاعة مكتظة بالحضور من كبار الأدباء وطلاب الجامعة، وبعد أن ألقيت ملخصاً للبحث وقف الأستاذ زيدان ومن مكانه وقال: «أحسنت يا ولدي، أما بعد ذلك فلا» وترك القاعة وخرج. لقد أعلن بهذه الطريقة اللافتة عن موقفه بل صك شهادة مولد كاتب، أمام الرواد وكبار الأدباء، في هذا المشهد الحافل. علاقتي مع الراحل الأستاذ زيدان حافلة وحيّة بالمواقف وتحتاج إلى كتاب يسهب في عرض كل ذلك.
أما بابا طاهر زمخشري، فاكهة المجالس الأدبية، فمن مؤسسي الإذاعة وبرنامجه الرائد في الإذاعة عن الأطفال مع الراحل بابا عباس من رواد الإذاعة. طاهر زمخشري شاعر مطبوع تنتابه مخيلة الشعر في كل وقت، حتى وهو نائم، للأسف لم أعاصره عن قرب، وقد شاهدته في أواخر عمره، لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث، رغم ذيوعه وحضوره الأدبي والإنساني.
- عبد الله الماجد ناشراً.. هل هي عودة للكتاب الذي بدأتم حياتكم الأولى بقراءته، أم نشراً للكتاب الذي تؤمنون بأهميته؟
- كان هذا حُلماً، بعد أن قرأت مقولة «رفاعة رافع الطهطاوي، واحد من أوائل رواد التحديث في العالم العربي والإسلامي، بعد عودته من أول بعثة عربية إلى أوروبا، بعد أن عاد من باريس، قال للحاكم في مصر: إن الأمم ترتقي وتتقدم بعدة أمور، أهمها ثلاثة: الترجمة العلمية، نشر المترجمات، تعليم العلم. ثم نظرت في تاريخ الأمة العربية، في عصورها المشرقة، فوجدت أن تقدمها ساهمت فيه عدة عوامل من أهمها نقل علوم الأمم السابقة المتقدمة إلى لغة هذه الأمة العربية. ونشر العلم وإقامة مراكز البحث والمكتبات، وازدهار حركة النشر، ودعم الحكام للترجمة ونسخ المترجمات، فتعزز الحلم إلى واقع، نشأت دار المريخ دار نشر علمية لترجمة العلوم التي نحتاج إليها في لغتنا العربية، ودفعني إلى ذلك أنني عملت في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود) في النشر العلمي فتعلمت أصول النشر والترجمة، وهي من أصعب مجالات النشر، تخضع إلى عدة معايير علمية، أهمها توفر المترجم المتخصص في المادة التي يترجم إليها وأن يمتلك زمام لغته العربية، واللغة التي يترجم منها، ثم تخضع مادته المترجمة إلى المراجعة والتحكيم العلمي. الآن لدى دار المريخ أكثر من سبعمائة عنوان من الكتب المترجمة في مجالات مختلفة ومن أحدث الإصدارات لدى الناشرين العالميين. هذه المترجمات بدون مبالغة تواكب بل تسبق العصر الذي صدرت فيه.
- النشر مرة أخرى: نشرتم كتابكم (صوت الخيام.. الرباعيات بين الانتحال والتدوين) حيث قرأته، شعرت بالشك في الرباعيات المتداولة فعلاً، وحِرت فيما قرأته قديماً قبل قراءتي لكتابكم، وانتهيت بعد ذلك إلى الشك والسؤال: هل هذه الرباعيات المنسوبة إلى «عمر الخيام» كما جاء في كتابكم منتحلة فعلاً؟
- لو عدت إلى العصر الذي نشأ فيه عمر الخيام، وهو ما بين القرن الخامس والسادس الهجري، الحادي عشر والثاني عشر الميلادي (430 - 526 هجري/ 1039 - 1132 ميلادي) لوجدت هذا العصر يموج بتعدد الفرق والطوائف المذهبية، وأصحاب الكلام. وظهور أعلام الفلسفة والعقل في مواجهة أصحاب الوهم والدجل والطوائف مثل الإسماعيلية والباطنية والقرامطة والمعتزلة. وكان الخيام من أعلام علماء فلاسفة عصره في الفلسفة وعلوم الفلك والرياضيات. نال في حياته كثيراً من العنت والهجوم عليه من أمثال أبوبكر الرازي وغيره، وخاف كثير من الفلاسفة على حياتهم في تلك الفترة وما قبلها، حتى أنه في عصر واحد من الحكام وهو (محمود الغزنوي 381 - 421 هجرية) الذي قام باضطهاد الفلسفة والفلاسفة في أنحاء مملكته، حتى امتد نطاق الاضطهاد في خراسان إلى الريّ عندما تغلب عليها محمود الغزنوي، فشنق بأمره في يوم واحد مائتين بتهمة الاعتزال وسوء المذهب. وقد يُفسر هذا الوضع ظهور «جماعة إخوان الصفا» في منتصف القرن الرابع الهجري وإمعانهم في إخفاء أسمائهم، وقد يُعتبر هذا الإجراء تعبيراً عن الخطر الذي يترصد الفلاسفة، حينما أعلنوا عن تأزم عصرهم باضمحلال الفلسفة وانتعاش الخرافات والجهل والدجل. وما دخل كل هذا الكلام بانتحال الرباعيات وإلحاقها باسم عمر الخيام؟ جواب ذلك طويل وأنصحك بإعادة قراءة خلاصة الكتاب ثم عرّج على التفاصيل. لكن شكك قد يزول حينما تعلم أنه نسب إلى الخيام في تقرير واحد من المستشرقين تخصص في هذا المجال هو الألماني «فريدريش روزون» (1856 - 1935م)، خمسة آلاف رباعية. كيف يمكن لشخص واحد أن يوفر حياته لو أراد لمثل هذا العدد من الرباعيات. والأهم أن الرباعيات أُلحقت بأسماء أربعة خياميين، منهم شاعر معروف اسمه «علي الخيام البخارائي» تجد تفصيل ذلك في الفصل الثاني من الكتاب. ثم إن عمر الخيام ومن بين آثاره المعروفة لم يترك نسخة من هذه الرباعيات بخطه، ولم يُعرف أنه أملى نسخة منها على أحد من تلاميذه، أو عثر على مخطوطة بخط واحد من أهل عصره. بينما رسائله الفلسفية المحفوظة في دور الكتب الأوروبية، وهي مكتوبة باللغة العربية، لم ينلها التحريف، ولم تلحقها طائلة الانتحال.
- «البناء داخل جدران قديمة» دراسة في فن عبد الله الناصر القصصي كتابكم هذا هو قراءة نقدية لقصص هذا الكاتب. نظرتُ إلى هذه الدراسة على أنها دراسة الإنسان داخل إنسان الناصر وأبطال قصصه أيضاً. وكأني بك وأنت تنقلنا بلغتك العذبة السهلة، لم تستطع التخلص من ذاتيتك ومشاعرك الصادقة الجميلة، أمام تجربة رفيق عمرك الناصر. هل على الناقد أن يتخلص من ذاتيته؟
- سؤال وجيه وجيد، أشكرك عليه. إبداع الفنان المبدع هو أصل من إنسانيته، والفنان إنسان قبل كل شيء، في خوالجه، أحلامه، وأسراره وبوحه. والفن الذي يصل إلينا من هذه الذات هو بوح ذاتي، حمّال أوجه. وأقرب المذاهب النقدية لفهم أسرار هذا البوح هو المذهب الانطباعي التأثري. ولذلك فإن الناقد في هذه الأحوال ذاتي، وهو حين يطبق هذا المذهب لا يجب أن ينساق إلى هوى نفسه وذاتيته، ولا بد أن يحتكم إلى المعايير التي تحكم هذا التذوق، وهو ما أشار إليه شيخ النقاد في عصره «محمد مندور» بأن القيم الجمالية في الأدب لا تدرك بأي تحليل موضوعي، ولا بتطبيق أية أصول أو قواعد تطبيقاً آلياً، وإلا لجاز أن يدعي مدع أنه أدرك طعم هذا الشراب أو ذاك، بتحليله في المعمل إلى عناصره الأولية والقواعد والأصول، في محاولة تفسير هذا الطعوم. ولكي يحقق الناقد الدرجة المثلى والعليا في مراتب التذوق لا بد أن يمتلك زمام ملكته التذوقية المدربة المرهفة سليمة التكوين. والناقد هو المؤلف الضمني، يتقمص دور المبدع، فتنشأ بينه وبين النص المبدع ألفة ومحبة، وليس عداوة وتصيداً للهفوات، وما الإبداع بمختلف قوالبه ومنه الإبداع الأدبي إلا تفسير ونقد للحياة البشرية. والنقد بعد ذلك تفسير للإبداع وتحليل لأساليبه. في كل هذه الأحوال الناقد ذاتي المشاعر، لكنه لا ينساق إلى هوى بعينه إلا الهوى الذي يتصيد مواطن الجمال وأسرار الإبداع.