د.محمد بن عبدالرحمن البشر
تصفحت كتاب خريدة القصر، وجريدة العصر، لمؤلفه جمال الدين الأصبهاني الكاتب، فوقع نظري على حديث المؤلف عن الحاجب ذي الرئاستين أبي مروان عبدالملك بن رزين، أحد حكام الطوائف في الأندلس، وقد تذكرت أنني قد كتبت عنه في كتابي مباهج الأندلس، أثناء الحديث عن دويلات الثغور والنواحي، في فترة حكم الطوائف للأندلس وكان واحداً منهم.
ونحن نعرف أن ابن حيان شيخ المؤرخين بالأندلس لا يجامل في وصفه، وثنائه وذمة، فيقول ما يقول بجدة ظاهرة، دون مواربة أو مجاملة، وعند حديثه عن عبدالملك بن رزين، بدأ بجده هذيل، حيث قال ابن حيان فيه: «وكان هذيل هذا بارع الجمال حسن الخلق، جميل العشرة، ظاهر المروءة، لم ير في الأمراء أبهى منه منظراً، مع طلاقة لسانه، وحسن توصله إلى حاجته دون سابق معرفة، وكان مع ذلك أرفع الملوك همة في اكتساب الآلات، والكسوة، وهو من بالغ في الثمن بالأندلس في شراء القينات، اشترى جارية أبي عبدالله المتطبب ابن الكناني، بعد أن أحجمت الملوك عن شرائها، لغلاء سومها، فأعطاه عنها ثلاثة آلاف دينار، فملكها، وكانت واحدة القينات في وقتها، لم يرى أخف منها روحاً، ولا أملح حركة، ولا ألين إشارة، ولا أطيب غناء، ولا أجود كتابة، ولا أملح خطأً، ولا أبرع أدباً ولا أحضر شاهداً على سائر ما تحسنه وتدعيه، مع السلامة في اللحن، فيما تكتبه وتغنيه، إلى الشروع في علم صالح من الطب، ينبسط بها القول في المدخل إلى علم من الطبيعة، وهيئة تشريح الأعضاء الباطنة، وغير ذلك مما يقصر عنه من منتحلي البضاعة، إلى حركة بديعة في معالجة الثقاف، واللعب بالسيوف والأسنة و الخناجر المرهفة، وغير ذلك من أنواع اللعب المطربة، لم يسمع لها بنظير، ولا مثيل، ولا عديل، وابتاع إليها كثيراً من الحسينيات المشهورات بالتجويد، طلبهن بكل جهة، فكانت ستارته في ذلك أرفع ستائر الملوك في الأندلس، وحدَّث عنه أنه اجتمع عنده مائة وخمسون حظية، ومن الصقلب المخصيين ستون وصيفاً، لم يجتمع عند أحد من نظرائه».
ربما دعانا وصف ابن حيان لابن رزين أن نتمنى أننا عشنا في عصره، وسنحت لنا الفرصة أن نكون قربة، فننعم بمجالسته، وننهل من مآنسته، ونسعد بالنظر، دون المساس بالحسن إذا حضر، وكأننا قد تمثلنا بقول الشاعر:
إِنّي اِمرُؤٌ مولَعٌ بِالحُسنِ أَتبَعُهُ
لا حَظَ لي فيهِ إِلّا لَذَّةُ النَظَرِ
ومن الغريب أن يقوم ابن رزين بدفع ذلك المبلغ وجمع الوصيفات والصقالبة لخدمتها لولا أن فيها من الحسن والأدب، وعذوبة اللسان في القول والغناء، ما دفعه أن يفعل ما فعل دون أن يرى في ذلك بأساً، ومهما قال ابن حيان عن ابن رزين فإن مجلسه لا شك سيقصر عن مجالس المعتمد بن عباد حاكم أشبيليه، فقد جمع ثمانمائة جارية من كل لون وجهة، وإن غلب عليه واحدة فقط، هي اعتماد الرميكية.
لكن ابن بسام في كتاب الذخيرة يصف طبع عبدالملك بن رزين حفيد هذيل فيذكر أنه سريع التغير والانقلاب، ينعم فيجزل، وربما يتقلب فيقتل، دون ذنب يستحق معه القتل، ولهذا قال عنه ابن خاقات في كتاب قلائد العقبان: كان ينشطط على ندمائه، ولا يرتبط في مجلس قدامه، فربما عاد إنعامه بؤساً، وانقلبت ابتسامته عبساً، فلم تتم معه حلوه، ولا يتجاوزه ميدانه كبوه، وقليلاً ما كان يقبل، ولا يناجي المذنب عنده إلاّ الحسام الصقيل، ومع هذا فإنه كان غيثاً، ومع ذلك فكان شاباً جميل الوجه، حمي الأنف، غليظ القلب، جباراً مستكبراً، وقد أطال ابن بسام وابن خاقان في وصف سوء طبعه، وجهله وفظاظته.
ولقد استضاف ابن رزين الوزير ابن عماد صديق وخليل المعتمد بن العباد، لكن الدنيا لا تدوم، فقد حدث ما حدث بين المعتمد وابن عمار في قصة طويلة مشهورة، ولجأ إلى ابن رزين وجلس ابن رزين في مجلسه، فأراد أن يستدعي ضيفه ابن عمار في تلك الليلة فأرسل له رقعة كتب فيها أبياتاً:
ضمان على الأيّام أن أبلغ المنى
إذا كنت في ودّي مسرّا ومعلناً
فلو تسألِ الأيام من هو مفردٌ
بودّ ابن عمّارٍ لقلتُ لها أنا
فإن حالتِ الأيّام بيني وبينهُ
فكيف يطيب العيش أو يحسن الغنا
لكن ابن عمار تأخر عن الوصول، واعتذر بعذر مختل المعاني والفصول، غير أن أحد الجالسين تعجب من عدم حضور ابن عمار مع ميله إلى السماع، وكلفه بطيب الاجتماع، فقال ابن رزين: إن الجواب تعذر، ولذلك أعتذر، فهو لا يرتجل الشعر، ورأى أن الوصول بلا جواب إخلال لأدبه، وإخجال بمنازله في الشعر ورتبه. وفي الغد قدم ابن عمار ومعه الرد، والحقيقة أن ابن عمار يرتجل شعراً جميلاً رائقاً في مجالس الأنس، ومواقف الحدث التي تتطلب ذلك، لكن ربما أنه تأخر لأمر يخصه.
هكذا كانت أيامهم، ومناهجهم وطباعهم، يأنسون تارة، ويكرمون ويقدمون، ثم يتغيرون فيقسون، ليس جميعهم هكذا، لكنها الطبائع البشرية التي وضعها الله في عباده، منها ما هو خير بدرجاته، ومنها غير ذلك، وكُل إلى زوال. والله المستعان.