أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كثير من أحبابي يحسدونني على (حزميّتي)؛ ومع هذا يهجونني بأنني حزميّ؛ فيا للعجب، وما أعجب الأكل في وقت الصيام؛ أي الأكل في شهر رمضان.
قال أبو عبدالرحمن: لقد حوقل الأشياخ واسترجعوا لما أعلنت ظاهريتي عام 1387 هجرياً، وجعلت كلمة (الظاهري) تملأ فراغ الاسم الذي يقتضي آخره ياء النسب؛ ولعله أحزنهم أن هذا العلم الحزمي الذي تخشع له القلوب، وتذعن له العقول لم يكن شيئاً مذكوراً في بلاد نجد، حتى استوى على قمته شاب شقراوي أراد الله به خيراً -إن شاء الله تعالى-؛ وإنما كان النقل عن ابن حزم قبل طبع كتبه في بلادي نقلاً بالواسطة ليس نقلاً مباشراً، وأعجب من ذلك أنني في سني الطلب تخلت مدينتي (شقراء) فلم أجد (المحلّى) عند غير آل سالم، ولم أجد (الإحكام) في غير مكتبة المعهد العلمي، وكان الشيخ (شويل) -رحمه الله تعالى- من المهتمين بعلم ابن حزم في الحجاز، وقد أخبرني الشيخ أبو تراب الظاهري أنّ تعليقاته على كتاب (الفصل) لو وجدت وجردت لكانت كتاباً جميلاً.. وكان (شويل) على صلة بسماحة الإمام محمد بن إبراهيم -رحمهما الله تعالى-.. وسمعتُ أنّ (شويلاً) -رحمه الله تعالى- كان يقول: اجعلوا المحلى حجاباً بينكم وبين النار، ولما حذقت من علم الإمام ابن حزم خيراً كثيراً، وتضاحكت في حروفي قوارعه وعواطفه وجمالياته وقوته وسبره وذكاؤه وتفنيده: رأيتُ أنني غريب، وطالبُ العلم لا يستمتع بعلمه حتى يجد المشارك.. وكان القوم في ذلك الوقت على بقايا من ورع الأسلاف يكرهون سلاطة اللسان، والتهجم على الأئمة، وكان الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- يرشق فلا يخطئ المقتل، وكان الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يسمي ابن حزم (منجيق المغرب)، ولما علمتُ المشارك رحلتُ إلى الشيخ أبي تراب الظاهري في الحجاز، وكان صيته قد ملأ الآفاق، وكان قد قرّطني بكلمة إعجاب.. رحلت بشعرتين بارزتين ملتويتين في طرفي اللحية، وكنتُ ألبس الثوب إلى طرف الساق متأثراً ببيئة تكره إسبال الثياب، ويعلو جسمي صفرة ونحول بسبب الإجهاد والسهر والزهد في الملذات؛ وهي نعمة من نعم مقتبل العمر؛ فقدتها في أيامي الأخيرة.. وبعد طول التساؤل عمدتُ إلى شقة أبي تراب في عمارة (باعشن) بجدة؛ فصادفتُ الظاهري يتوكأ على العكاز في السلالم مهدفاً إهداف النواعير.. إلا أنّ زيه زي عصري فلحيته رسمية تلوح كالختم قد تحيفها التهذيب، وكان لباسه من أخمصه إلى قدمه لباساً أنيقاً، وكنتُ أحسبه من المعمّمين، والتقينا ونسيتُ صورة اللقاء؛ لشدة فرح الجانبين بلقاء الطرف الآخر؛ إلا أنه كان يتوقع أنني على سن أعلى من السن الذي رآني عليها..كان الشيخ صاحبُ مزاج لا يتفجر علمه في المجالس إلا في صفاء أريحي يخضع لحريته الإرادية، وكان لا يستحضر مذخور قراءته الكثيرة الكثيرة إلا في المناسبات.. ورجعتُ إلى نجد بعين ضارعة؛ لأنني لم أجد في محيطي معمماً كهذا من بقايا الأسلاف أطارحه ويطارحني.. ورأيتُ أنّ علمه الجم العباب مصروف لغير خدمة الظاهرية؛ فأسفتُ لذلك، وما زالت، ولن تزال إن شاء الله تعالى لدي جذور ضاربة من الوفاء لأبي تراب أغذيها بالحبّ، والعبق، ولا يهمني أن يتقوقع ظاهري الحجاز، وينزل ضيفاً على صهره بالرياض في أكثر الأحيان، ولدي دارنا ابن حزم وداوود تقولان له: (هيت لك)، والله المستعان.
قال أبو عبدالرحمن: من مبادئ الأخذ بالظاهر التفريق بين النص على الشيء باسمه والنص عليه بمعناه، وأُبيّن ذلك بهذه الطرفة من محاورة يقال أنها تمت بين (الكناني، وابن الجهم)؛ ففي كتاب (الحيدة) المنسوب إلى الإمام عبدالعزيز بن يحيى الكناني: أنّ الكناني قال للمأمون: كل ما يتكلم به الناس مما يحتاجون إليه من علم أديانهم ويتنازعون فيه منها فهو موجود في القرآن لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}» [سورة الأنعام/38]؛ فاعترض عليه ابن الجهم بحصير مبسوط في الإيوان وقال له: أوجدني أنّ هذا الحصير مخلوق بنصّ القرآن؟.. ثم أخذ الكناني يستدل على خلقهن بقول الله تعالى في النخل: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [سورة الواقعة/ 72]، وبقوله تعالى عن الجلود: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [سورة النحل/ 5]، وبقوله تعالى عن خلق الإنسان: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/ 16].. قال الكناني عقب ذلك: «فصار الحصير مخلوقاً بنص التنزيل لا بتأويل ولا بتفسير».
قال أبو عبدالرحمن: للكناني مناظرة لبشر المريسي صحيحة.. إلا أن كتاب الحيدة المطبوع المنسوب للكناني المدّعى أنه هو نفسه مناظرته لبشر لا تثبت نسبته إلى الكناني؛ وهو محل شك كبير، وحول ثبوته أكثر من علامة استفهام.. وليس في الآيات الكريمات نص على أنّ الحصير الذي بإيوان أمير المؤمنين مخلوق بلا تأويل ولا تفسير، وليس فيه نص على أنّ سعف النخيل مخلوق، وليس فيه نص على أنّ الجلود مخلوقة، وليس فيه نص على أنّ عمل الإنسان مخلوق؛ وبذلك بطلت دعوى أنّ الحصير مخلوق بصريح النص؛ لأنّ الحصير في إيوان المأمون لم يُنصّ عليه باسمه، ولكنه منصوص عليه بالمعنى؛ لأنه لا خالق غير الله، ولأنّ كل شيء خلق الله؛ وبهذا وردت النصوص الشرعية، والحصير فرد من عموم الشيء.. ونص الله على خلق النخيل والأنعام والإنسان وما يعمل، والحصير من تلك الأشياء المنصوص عليها بالمعنى لا بالاسم، والنص على الشيء بمعناه هو الدليل عند أهل الظاهر.
قال أبو عبدالرحمن: هذا نموذج عاجل يسير يدل على أنّ الاجتهاد والاستنباط هو أداة الأخذ بالظاهر لا الجمود على الحرفية؛ بمعنى تعطيل الفكر ومسلمات اللغة تجاه ما هو ظاهر جلي، وبمعنى صرف النظر عن نصوص أخرى تبين المراد؛ وإنما حدثت أخطاء صُلع معدودة لبعض أئمة أهل الظاهر عطّلوا فيها فكرهم؛ فكان هذا خطأ في التطبيق، وكان هذا بخلاف ما هم من سعة إعمال الفكر، وسعة أدوات الاجتهاد، ودقة الاستنباط.. وبيانُ تفصيل ذلك في أسفار كتابي (الأخذُ بالظّاهر، والاكتفاءُ به)، وإلى لقاء قريب -إن شاء الله تعالى-، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عنّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-