د. تنيضب الفايدي
تفيض قلوب المسلمين محبةً ووجداً وشوقاً للنبي والرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنه يكنّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولآل بيته، ولأمته الشوق والمحبّة ويتأثر صلى الله عليه وسلم لما يصيبهم ويشعر بالأسى والحزن فقد بكى بكاء الخوف والخشية والرقة، وبكاء الشكر، بكاء الحب لله سبحانه وتعالى، سكب دمعه عند تلاوة القرآن الكريم، وعند سماعه، يذرف الدموع في صمت، بل ويسمع أصحابه نشيجه أثناء الصلاة ويتفاعل الصحابة مع الحبيب ويتحول المسجد إلى بكاء ودموع، ويكون بكاؤه خشوعاً لله سبحانه وتعالى، حيث بلغ من خشوعه صلى الله عليه وسلم في صلاة أنه يسمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أثناء غزوة بدر ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يبكي وهو يصلي حتى أصبح.
وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذويه وأصحابه حيث تتوفى بناته، رقية وأم كلثوم وزينب رضي الله عنهن ويتأثر بذلك لأنه رحيم، رقيق القلب، جياش العاطفة، ويحزن على هؤلاء الطاهرات، فقد حضر صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته زينب وجلس على قبرها وعيناه تذرفان براً ورحمةً وحناناً.
وحين أدبر الشباب وأقبلت الشيخوخة أصبح سيد كل مولود يتمنى المولود، ويرزق ابناً سماه إبراهيم، إنه نعمة كبرى، أهداها الله إليه، وسر صلى الله عليه وسلم كثيراً ولكن هذه المنحة الإلهية أخذها مانحها وأصبحت محنة للابتلاء ليعلم المسلمين الصبر وآه.. ثم آه على فقد الولد، وينظر الوالد الحزين إلى إبراهيم الابن وقد سكنت روحه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم موقن بقضاء الله وقدره، ويبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستجيب عيناه بالدمع لهذا الفقد، بل إن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل من رآه باكياً يشاطره البكاء، ولأنه سبق وأن نهى الناس عن البكاء تساءل أحدهم أتبكي وقد نهيت الناس عن البكاء؟ فيجيبه (إنما هذا رحم ومن لا يرحم لا يرحم إنما ننهي الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه).
ويحمل ابن الرسول الكريم إلى القبر، ويروي ابن سعد في طبقاته: ويجلس صلى الله عليه وسلم بالقرب من قبر ابنه إبراهيم والناس يوارونه التراب، ويرى فرجة في اللحد، فيأخذ حجراً ويناوله من قام على تسوية القبر ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي».
وتأثر الرسول الكريم بما حدث لعمه وأخيه من الرضاعة حمزة بن عبد المطلب، أسد الله، وسيد الشهداء حيث مُثِّل بجسده بعد استشهاده في غزوة أحد، وقد حزن عليه صلى الله عليه وسلم حزناً قوياً ممزوجاً بالرحمة والحب، وعند رجوعه إلى المدينة وجد نساء الأنصار يبكين قتلاهن في غزوة أحد، وامتلأت نفسه رقةً وحناناً لعمه الشهيد، حيث لم يجد من يبكي عليه فقال كلمة عميقة مؤثِّرة، «لكن حمزة لا بواكي عليه» وسرت هذه الكلمة إلى الأعماق في نفوس الأنصاريات الطاهرات ونفذت إلى قلوبهن، وهزت مشاعرهن، وبكين سيد الشهداء، وسفحن دموع الحب والحزن، ورضيت نفس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي النهي عن البكاء لاحقاً.
وها هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم يقدم عليه حين فتح خيبر، وتلقاه فرحاً وقبله وقال (والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)، أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم وأهداه الرسول صلى الله عليه وسلم وساماً يبقى ما بقي الزمان، حيث قال له: «أشبهت خلقي وخُلقي، وما أروعه من وسام، ويستشهد جعفر رضي الله عنه ويلقبه الرسول بـ(ذي الجناحين) ويتأثر الرسول صلى الله عليه وسلم باستشهاده، ومن وفائه صلى الله عليه وسلم يقوم بزيارة لبيت جعفر ودعا بأطفاله الثلاثة (محمد، عبد الله، عوف) ويلتفون حول النبي، وجاشت عاطفته صلى الله عليه وسلم، حيث أثاروا الشجن وذكروه بحبيبه فأهداهم الدمع سخياً.
وكما ذرف الدمع على آله وذويه، فقد بكى صلى الله عليه وسلم أصحابه الأبرار الأطهار ومنهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه أول المهاجرين توفي بالمدينة، حيث حضر صلى الله عليه وسلم حين فاضت روحه إلى بارئها وأكب النبي على جبين عثمان يقبله وسكب دمعه غزيراً على وجه ابن مظعون حتى بلله، وما أكرمه من وجه ذلك الذي امتزج بدموع النبي، وقد ابنه قائلاً: (رحمك الله أبا السائب خرجت من الدنيا، وما أصبت منها وما أصابت منك) وهذا صحابي آخر أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأحبه النبي، وملأت محبة النبي قلب زيد بن حارثة حتى فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيه وأمه وجميع أهله، ويشهد مع الرسول القائد بعض الغزوات كغزوة بدر وغزوة أحد، وإذا بعث الرسول بعثاً أو سرية أمّر عليها زيداً كما ورد ذلك في طبقات ابن سعد: (وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش إلا أمّره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه)، وقد أصبح قائداً لموقعة مؤتة وقتل شهيداً مع شهيدين آخرين هما: جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم.
ويزور صاحب القلب الرحيم الذي ملئ براً ورحمةً - يزور بيت زيد بن حارثة بعد استشهاده فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثارت كامنات شجون القلب الرحيم فبكى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى انتحب فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: (هذا شوق الحبيب إلى حبيبه).