أحمد المغلوث
عندما كنت أحرِّر صفحة فنون تشكيلية بصحيفة اليوم ملحق «المربد» في التسعينات كنت حريصًا جدًا أن التقي أو أكتب عن نخبة من الزملاء والمعارف من الفنانين التشكيليين، وتمنيت أيامها لو ألتقي بالفنان الدكتور محمد الرصيص، لكن لم يكن أيامها موجودًا في رحاب الوطن. ومع هذا كنت أتابع نشاطاته وفعالياته خاصة وهو من أوائل الذين اهتموا بمتابعة التحصيل في مجال الفنون، أكان عبر بحوثه الأكاديمية أو من خلال رسائله في الماجستير وبعدها الدكتوراه. وكانت تثيرني كثيرًا لوحاته البسيطة جدًا والتي تكاد تكون عفوية أو حتى تلقائية إلى حد كبير، كأنه يترك العنان لريشته لتجسِّد ما يدور في ذهنه من تصورات وأخيلة فيها شيء كثير من اللمسات الطفولية العظيمة. وليسمح لي كل نقاد الفن ودارسيه والمهتمين بسبر ماهية اللوحة التشكيلية والدخول إلى أعماقها ومن ثم تحويلها لتكون وليدة هذا الأسلوب أو ذاك، أكانت واقعية أم انطباعية أو تأثيرية أو حتى تكعيبية. ومن هنا سوف تجد صعوبة كبيرة لتحديد أسلوب فناننا الكبير قدرًا ومكانة وعلمًا، ومن هنا نكتشف بأن لوحاته هي مزيج متكامل من مختلف الأساليب بدءًا من بساطة وروح الطفولة والعفوية، ووصولًا إلى التلقائية المحببة. وإذا جاز لنا القول إن من الفن لسحر وفمن البساطة لسحر أيضًا وتأثيرًا أكثر. لذلك نجد أن تلقابة الفنان «الرصيص» تعيدنا إلى أجواء الطفولة على اختلاف أنماطها وأشكالها. بل كثيرون من الفنانين العالميين انطلقوا من هذه الأجواء. وكان المبدع الأشهر في العالم ومنذ قرون ليوناردو دافنشي هذا الفنان الموهوب والذي علَّم نفسه بنفسه منذ كان طفلًا من خلال تنمية موهبته، كان رسامًا ومهندسًا ونحاتًا ومعماريًا ورسام خرائط ومنشورات علميَّة. وهو أحد أشهر علماء عصر النهضة، ويعد أحد أعظم العباقرة في تاريخ البشرية ككل. وكثيرًا ما وُصف باعتباره صاحب «خيال إبداعي مُنقطع النظير»، بيكاسو كان يرسم في بداياته بتلقائية وعفوية الطفولة. كاندنسكي. السير الماتديما. نورمان ركويل.. ماغرت. وسلفادور دالي. وجاكسون بولك الذي حمل راية التجريد انطلاقًا من رسومه أيام طفولته. ولا ننسى العديد من الفتانين العرب أمثال الرسام الموهوب حسن بيكار والذي اهتم بفنون الأطفال بصورة رائعة. وهكذا نجد حبيبنا «الرصيص» يبدو أنه ما زال حريصًا على الاستمرار في أجواء رسومه العفوية والتلقائية التي تشكل منبعًا خصبًا للوحاته القديمة والجديدةفي آن.. ومن الجميل جدًا أن يعبر الفنان عن تلك الأشياء الخفية التي تسكنه ويسكنها بحب. لقد وجد فناننا الكبير نفسه في عالم رحب من الإبداع كشف من خلاله عن قدراته الفكرية والفنية التي تركت العنان لريشته طوال العقود الماضية لترسم لوحاته عبر أسلوبه الخاص جدًا. وليثري عالمه الواسع والخيالي بلوحات تعبِّر عن ذاته مع إسقاطات. فيها الكثير مما هو مثير في لوحاته المركبة.. والأجمل من هذا أنه ورغم مشاغله ومسؤولياته ما زال يبدع لنا لوحاته وحتى مؤلفاته الكثيرة والتي اتسمت بالمصداقية وروح الحب والإخلاص لوطنه. كم نحن محظوظون بمبدع لم تغره درجة الدكتوراه ولم تمنعه من التواصل مع كل الفنانين في الوطن.. بل إنه أكثر تواصلًا وتواضعًا من غيره. بل وحتى في كتاباته ومحاضراته ومؤلفاته تجده يذكر بالخير الغير.. ما أروعك يا دكتور محمد. فلنحمد الله أن لدينا في وطننا الحبيب فنانًا مبدعًا وكبيرًا ومتواضعًا اسمه. د. محمد الرصيص..؟!