سليمان بن عثمان الفالح
في صباح يوم الأربعاء الموافق 14-10-1442هـ فُجِعتُ كما فجع غيري بوفاة معالي الشيخ الوفيّ محمد بن سليمان المهوس، ولا شك أن الموت حق ولكن غياب الأحبة صعب، لا سيما رفقاء الدرب وأصدقاء الزمان والأحبة الذين عاش معهم الإنسان أزمانًا مديدة وأوقاتًا عديدة في الليل والنهار وبالداخل والخارج؛ حيث تزاملنا منذ عام 1386هـ، والتحقنا بوزارة الداخلية في العام نفسه ضمن عدد من الإخوة الذين زاملونا في العمل، وقد انتقل معالي الشيخ من الديوان الملكي إلى الوزارة، أمّا أنا فقد انتقلت من سلك التعليم حيث كنت مديرًا للمعهد العلمي بالزلفي، وعملنا في الوزارة في الشؤون الإدارية؛ حيثُ كانت هذه الإدارة تضم نخبة من الزملاء، ثم تدرجنا في العمل حتى أصبح مديرًا عامًا للحقوق، وكنت مديرًا عامًا للتفتيش.
كان عملنا متقارباً، أستشيره ويستشيرني، ونعم الزميل، نيّته صافية وصادقة، وفكره نيّر، وهدفه مصلحة العمل مع إمعان الفهم والتفكير في معاني نصوص الأنظمة ومراميها وأهدافها، وقد كان محل التقدير عند المسؤولين في الوزارة؛ لا سيما سمو الوزير وسمو نائبه ووكيل الوزارة حتى أصبح وكيلاً للوزارة لشؤون الحقوق، وكان -رحمه الله- لا يبخل بجاهه فيما لا يتعارض مع الأنظمة والتعليمات والأوامر التي تصدر من الجهات العُليا ومن مقام الوزارة، كنت أزوره في مكتبه بين الفينة والأخرى، وعند اللزوم أزوره يومياً صباحًا أو مساءً حسبما تقتضيه مصلحة العمل، وكنا نسافر معاً خارج المملكة وداخلها، وهو نعم الرفيق بالسفر والحضر، لا تسأم من حديثه، ولا يتململ من حديث صاحبه، سافرنا إلى أمريكا وإلى عدة دول؛ لكن سفرنا إلى أمريكا كان لحضور مؤتمر تبنته الوزارة؛ عُقد في مدينة شيكاغو، وخلال المؤتمر ألقى بحثًا مُميّزًا وكان له صدى آن ذاك، كما أني ألقيت بحثًا آخر في المؤتمر، ورافقنا في هذا المؤتمر معالي الشيخ صالح الفوزان وفضيلة الشيخ محمد الهويش وسعادة الدكتور محمد الرشيد وسعادة الدكتور حمد السند وغيرهم، وقد دُعينا لزيارة بعض المراكز الإسلامية في المدينة، وكانت لزيارتنا آثار طيبة مع هذه المراكز، وهي في الحقيقة مفيدة وممتعة. ومن هذه الرحلات التي لا تُنسى مع رفيق السفر أبي خالد -رحمه الله- أننا سافرنا إلى الصين قاصدين اجتماعًا مهمًا في مدينة شنغهاي، وقد أخذنا رحلة من جدة ثم إلى الصين مرورًا بسنغافورة؛ إلا أنّ الرحلة حصل بها عطل وأفرغت كمية من الوقود وأعلن ذلك الطيار وهبطت في صلالة في عمان، قضينا فيها فترة ثم أقلعنا وتكرر الخلل في الطائرة وأعلن ذلك الطيار، وكان الشيخ محمد نائمًا، فاستيقظ على إعلان الطيار، فقال ماذا يقول؟ فقلت يقول إن الطائرة تعرضت لعطل، فرجع ونام. وقال هذا عملهم وما علينا إلا الصبر، ثم أقلعنا من صلالة، وتكرر الخلل أيضًا للمرة الثالثة وهبطنا في بانكوك، ومن بانكوك أخذنا رحلة إلى شنغهاي حتى استغرقت رحلتنا ثلاثة أيام، وقد انتهى المؤتمر قبل وصولنا، ولم أشعر خلال تلك الرحلة من أبي خالد إلا الهدوء والسكينة وسعة البال رغم اضطراب الوضع وتكرار الخلل.
وفي عام 1414هـ صدر الأمر الملكي الكريم بتعيين معالي الشيخ محمد رئيسًا لهيئة التحقيق والادعاء العام (النيابة العامة حالياً) والتي صدر المرسوم الملكي بإنشائها والموافقة على نظامها عام 1409هـ ، وبعد تكليفنا بذلنا قصارى جهدنا في تأسيسها بناءً على توجيهات صاحب السمو الملكيّ الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية رحمه الله، ولا يخفى أن التأسيس صعب وهام ويحتاج إلى صبر ومثابرة؛ لكن معالي الشيخ محمد بحكمته وعقليته وتفهمه للأمور وخبرته الطويلة في وزارة الداخلية ذلل كل الصعاب وهان كل أمر وسارت الأمور على خير ما يرام؛ لا سيما وأن توجيهات سمو الأمير نايف تفتح الأبواب المغلقة وأعطانا الصلاحيات التي تدفعنا إلى العمل وتشدنا إليه، وكان لمعالي الدكتور إبراهيم العواجي وكيل وزارة الداخلية آن ذاك، دور كبير عند إنشاء الهيئة وعند بداية التأسيس وكان جزاه الله خيرًا موفقًا في توجيهاته وفي نظرته البعيدة نحو عمل الهيئة ومستقبلها، وكان يجتمع بنا دائمًا ويفتح لنا كل مغلق، حتى سمح بنقل عدد من مسؤولي الوزارة، وزودنا بكل ما يلزم للهيئة بل إنه عرض لسمو الوزير لإعطائنا موقعًا كان تابعًا وقريبًا منها؛ مما سهل علينا العمل وفتح الآفاق أمامنا وكنا نجتمع به ونستشيره، وكان نعم المستشار الذي لا يبخل برأيه وتوجيهاته.
كان معالي الشيخ محمد هو رمز الهيئة وكنا نجتمع به يوميًا من الساعة التاسعة حتى الثانية بعد الظهر، وفي الساعة التاسعة ليلاً حتى الثانية عشرة، وقد يمتد الاجتماع لأن عمل التأسيس مهم ويحتاج إلى وقت وسعة بال وإمعان فكر وحسن تعامل مع الجهات المعنية، ومعالي الشيخ له القدح المعلى في هذا المجال لديه الصبر والمثابرة والاحتساب وتقدير العاملين معه صغيرهم وكبيرهم، رحمه الله وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة ووفق أولاده بالسير على دربه ومنهاجه، ولا شك أنهم فاعلون، رحم الله رفيق الدرب وأسكنه فسيح جناته.