قَضَيتَ حَياةً مِلؤُها الجدُ والإخلاص
(فأنت بأجر العاملين المخلصين جديرُ)
في الآونة الأخيرة من هذا الزمن تتابعت قوافل الراحلين إلى الدار الآخرة، من زملاء وأقارب ومعارف..، وهذه سنة الحياة في تعاقب الأجيال جيلًا بعد جيل، إلى ما شاء الله جلّ علاه، فمنهم من يكون غيابه ورحيله مُحزنًا ومؤسفًا جدًا، تبقى آثاره مُجلجلة بين الجوانح والقلب، ومُساوِرةً للنفوس أزمانًا طوالاً، كلما يتذكر حلاوة تلك الأيام والسويعات الجميلة التي مرت سريعةً، يتعذر رجوعها وعودتها:
مَا أحْسَنَ الأيّامَ، إِلاَّ أنّهَا
يا صاحِبيّ، إذا مَضَتْ لمْ تَرْجِعِ
«فَعَزّ الفُؤادَ عَزاءً جَميلا»، وذلك مثل حالنا مع صديقنا وحبيبنا معالي الشيخ محمد بن سليمان المهوس (أبو خالد)..، وقد ولد في محافظة آبائه (ثادق) بمنطقة الوشم عام 1358هـ، وعاش بين أحضان والديه مع شقيقه إبراهيم، وإخواته ورفاقه في أجواء فرح ومرح، كأمثاله الذين أهلّوا على الدنيا أطفالاً..، ثم تلقى مبادئ العلوم الشريعة على يد قاضي البلد وبعض العلماء الآخرين -آنذاك- مع دِراسته بالمرحلة الابتدائية..، ثم حصل على ثانوية المعهد العلمي بالرياض عام 1378هـ، كما حصل على شهادة البكالوريوس من كلية الشريعة بالرياض عام 1382هـ، وبعد تخرجه عُيِّن بالديوان الملكي: شعبة الشؤون الإسلامية عام 1383هـ، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية عام 1385هـ، وعمل في مجال الحقوق والاستشارات الشرعية، وتدرج في المناصب حتى تم تعيينه وكيلاً مساعدًا لشؤون الحقوق عام 1403هـ، واستمر في هذا المنصب إلى أن صدر الأمر السامي الكريم بتعيينه رئيسًا لهيئة التحقيق والادعاء العام عام 1414هـ، بعد ذلك صدر الأمر السامي بترشيحه عضواً في مجلس الشورى عام 1426هـ، كما قام بإعداد الكثير من الدراسات والبحوث العلمية، ومشاركًا في كثير من المؤتمرات والندوات الخاصة بطبيعة عمله..، وقد أقيم له حفل تكريم برعاية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- بمناسبة انتهاء فترة عمله في هيئة التحقيق، حيث اثنى على جهوده المتعددة في خدمة بلاده طِيلة عمله لما يتمتع به من حِنكة، وقيادة موفقة في تسيير ما وكل إليه من أعمال خاصة وعامة..، ولقد قام -رحمه الله- بتلك الأعمال المتعددة والمشرفة خير قيام بتوفيق من -الله جلّ ثناؤه- مع ثقة ولاة الأمر به لطول باعه في مجال عمله، ولمعرفة بأحوال أبناء المجتمع على اختلاف طبقاتهم وعاداتهم:
وليس على الله بمُستنكَرٍ
أن يَجمع العاَلمَ في واحِدِ
ولنا معه ومع شقيقه الوحيد إبراهيم ذكريات جميلة لا تغيب مدى العمر أثناء الدراسة والعمل معًا، كما لا ننسى تكريمه لنا بمزرعته في بلده (ثادق) الآهلة بأعداد كبيرة من النخيل المثمرة، والأشجار المتنوعة، الواقعة على مقربة من السّد هُناك..، فهو رجل طبع على الكرم وسماحة الخلق وهدوء الطبع منذ فجر حياته:
وَأَحْسَنُ أَخْلاَقِ الفَتَى وَأَجَلُهَا
تَوَاضُعُهُ لِلنّاسِ وَهُوَ رَفِيعُ
وقد مرض قُبيل وفاته..، وعندما زاره شقيقه إبراهيم في مرضه وهو في حالة حرجة جدًا لا يشعر فيها بمن حوله، فأيقن أنه مفارق..، ولسان حاله في تلك اللحظات المحزنة يردد بين جوانحه معنى هذا البيت:
فإِنْ تَكنِ الأيَّامُ فَرَّقْنَا بَيْنَنَا
فقدَ بانَ مَحْمُودًا أَخِي حينَ وَدَّعَا
حيث انتقل إلى رحمة الله يوم الأربعاء 14-10-1442هـ، وأديت صلاة الميت عليه عصرًا ثم ووري جثمانه الطاهر بمقبرة الشمال بالرياض، وكأني بشقيقه الأستاذ إبراهيم عندما أخفت الترب جثمان أخاه، وبات مقيمًا تحت طيات الثرى لم يتمالك دفع عبراته مجهشًا بالبكاء مستحضرًا معنى هذا البيت:
أُخيّينِ كُنّا، فرّقَ الدهر بيننا
إلى الأَمدِ الأَقْصى، وَمَن يَأْمَن الدَّهْرا
كان الله في عونه وعون أبنائه وأحبته، والعزاء في ذلك أنه ترك ذكرًا حسنًا، وخلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بالأعمال الخيرية وصلة الرحم، مدى الأيام -غفر الله للفقيد الغالي وأسكنه عالي الجنان-، وألهم ذويه وأخاه وأبنائه، وعقيلته (أم خالد) ومحبيه الصبر والسلوان.
عليك سلامُ الله مني تحيَّةً
ومنْ كل غيثٍ صادقِ البرْقِ والرَّعدِ
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف