وقع الذي كنا نخاف وقوعه
فعلى المنازل وحشة لا ترحل
بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال لا سفاسف الأقوال غادر الدنيا الفانية معالي الشيخ فيصل بن محمد بن عبدالعزيز الشهيل، الرجل الكبير بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، كان رحمه الله كبيراً لا متكبراً، متواضعاً لا وضيعاً، كثير العلاقات واسع الصلات، قليل الخصومات نادر العداوات، محباً للخير ممن يألف ويؤلف، ذا رأي ورؤية وحكمة وروية، ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس).
ومن محاسن الصدف أن اتصلت أسبابي بأسبابه في بدايات عودته من دراسته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية أوائل الستينيات الميلادية. حينذاك كان عدد الخريجين قليلاً جداً يشار إليهم بالبنان خاصة من هم مثل شخصية الشيخ فيصل، فقد كان طلعة لا تخطئه العين أينما ذهب أو حل أو نزل. التحق بالعمل - في أواخر عهد الملك سعود - مديراً عاماً لمصلحة الموانئ والمنائر التي استحدثت في وزارة المواصلات بعد أن كانت تتبع لخفر السواحل (حرس الحدود حالياً)، والوزير وقتذاك الشيخ عبدالله السعد القبلان، كان أبو منصور طويلاً وسيماً جسيماً بشوشاً مقبلاً على الحياة متفائلاً بها. ثم مضت الأيام وأصبح الشيخ عبدالله بن خميس وكيلاً لوزارة المواصلات، وعندما صدر نظام المؤسسات الصحفية مطلع عام 1964م وتحولت الصحافة الفردية إلى صحافة المؤسسات، وكان الشيخ ابن خميس صاحب امتياز مجلة الجزيرة الشهرية، اختاره عضواً مؤسساً في مؤسسة الجزيرة الصحفية؛ فالتقى من وقع عليهم الاختيار ليكونوا مؤسسين في دارة ابن خميس في شارع جرير بحي الملز، تلك الدار لا تزال باقية حتى اليوم، وكان الشيخ فيصل وأنا ممن اصطفاهم الشيخ عبدالله كأعضاء في المؤسسة الوليدة، فازددت معرفة وقرباً واعجاباً بأبي منصور.
ولد غفر الله له في الطائف نحو عام 1933م إبان تولي والده إمارتها، ووالدته هي فوزية الفقير شقيقة الشيخ المثقف عادل بن محمد بن رحيل الفقير الذي درس في كلية النجاح بفلسطين وكان يجيد اللغتين الفرنسية والتركية إلى جانب لغته العربية. نشأ فيصل في الشمال حيث كلف والده بمهمات وإمارات أدارها وأحسن إدارتها، ثم درس في بغداد سنين عدداً، انتقل بعدها إلى لبنان حيث أكمل دراسته الثانوية ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت وحصل على شهادة البكالوريوس. اتجه بعد ذلك إلى أمريكا، بعد أن تزوج من رفيقة دربه وأم أولاده الأستاذة الأديبة أسيمة محمد درويش القبلاوي والتي سبقته إلى الدار الآخرة غفر الله للجميع، وبعد أن حصل على شهادة الماجستير عاد إلى المملكة.
كان عدد من يحملون الشهادات العليا في ذلك الوقت قليلاً، وعندما وقعت واقعة الخلاف السعودي المصري أيام جمال عبدالناصر انسحب الأساتذة المصريون الذين يدرسون في جامعة الملك سعود بضغط عليهم من حكومتهم ظناً أن هذا سيعطل الدراسة في المملكة ويحرج الحكومة السعودية، فهب السعوديون الذين يحملون الشهادات الجامعية بجانب عملهم في الوزارات نهاراً يدرّسون في الجامعة بعد العصر ومساء ليسدوا النقص حتى استقدمت الحكومة أساتذة من العراق والشام وغيرهما، وأذكر من أولئك الشيخ أحمد زكي يماني والشيخ أحمد صلاح جمجوم والشيخ صالح الحصين والشيخ حسن المشاري والشيخ عمر فقيه وعدد من الوزراء والمسؤولين الذين درسوا في الخارج، وانتهت المشكلة ولم يعد لانسحاب الأساتذة المصريين أي تأثير.
أما ما يتعلق بالجانب الصحافي والإعلامي في حياة الشيخ فيصل الشهيل والذي كنت قريباً منه وشاهداً عليه، فهو يعد من رجال التأسيس في (الجزيرة) المؤسسة والجريدة، وثالث ثلاثة مع الشيخ عبدالله بن خميس والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز السديري وأشهد لهم أنهم تبنوا تطوير العمل منذ البدايات ووضع الأسس التي انطلقت من خلالها (الجزيرة)، فالمؤسسة لم يكن لها مقر ثابت ولا مطابع خاصة لها، فقد كانت تطبع في مطبعة تقع في حي المرقب وهي من أوائل المطابع في الرياض، أسسها الشيخ حمد الجاسر عام 1955م مع مجموعة من الشركاء منهم الشيخ عبدالله بن فهد الثنيان بمسمى (شركة الطباعة والنشر الوطنية - مطابع الرياض) وعرفت باسم (مطابع المرقب)، وكانت تطبع فيها أكثر الصحف والمجلات التي تصدر في المنطقة الوسطى مثل اليمامة والدعوة وراية الإسلام والقصيم والخليج العربي والمعرفة، وأول مدير للمطابع هو الأستاذ علي بن حمد البعداني، هذا عن المطبعة أما عن المقر أو مكاتب الجزيرة فكان في شقة من شقق البلدية في الصفاة استأجرها الشيخ ابن خميس من أمانة مدينة الرياض، لكن الرواد ابن خميس والسديري والشهيل أبت همتهم إلا أن يجعلوا للمؤسسة كياناً ومقراً، فاشتروا الأرض التي في شارع الناصرية مقابل الأمن العام الآن وأقاموا عليها المبنى بكفالتهم لدى البنوك ثم استوردوا المطابع بكفالتهم لدى الجفالي، وبهذا الموقف الرجولي المشرف الذي يحمد لهم ويذكر ويشكر كانت الجزيرة من أوائل المؤسسات التي تمتلك مبنى ومطابع خاصة بها.
كانت مرحلة الستينيات مرحلة عصيبة جدا أيام الخلاف السعودي الناصري وكانت لوثة الناصرية منتشرة وأصابت كثيرين قبل الخلاف، لكن الشيخ فيصل تخلى عن جميع الأفكار التي كان قد تبناها في مراحل الدراسة في العراق ولبنان وأمريكا، أقول تخلى عنها عن اقتناع لأن الوطن كان أهم بالنسبة له، وتلك الأفكار لا تمثل شيئاً وإنما هي إحدى المراحل التي طواها النسيان وتجاوزها الإنسان، ووقف موقفاً وطنياً، وكان رحمه الله يشجعني على الكتابة حين كانت المعركة محتدمة مع مصر.
ولما انتهت مدة أول رئيس لتحرير الجريدة الأخ الأستاذ عبدالعزيز بن حمد السويلم، تم تكليف الأخ فيصل من قبل مجلس الإدارة بالإشراف على الإدارة والتحرير بجانب عمله في وزارة المواصلات، وكان ممن أقنعني بالقبول برئاسة التحرير حين تم ترشيحي لها، ووعدني بأن يقف معي وقد وعد وصدق، فاستعنت بالله تعالى ثم برأيه ومشورته وتعضيده وتأييده هو وبعض الأعضاء. وطوال مدة عملي رئيساً لتحرير الجزيرة كنت ألمس منه تعاطفاً وعطفاً ومؤازرة ونصحاً. كان رحمه الله دائم الحضور للمؤسسة بحكم أنه المشرف على الإدارة والتحرير، لا يضيق بأي مطالب، تراه دائماً هاشاً باشاً متفائلاً ومتفاعلاً، مقتنعاً ومقنعاً، لا يتبرم ولا يتغير، منطلق الأسارير، ولا سيما مريحاً في تعامله، كريماً سخياً. كنا نأتيه في منزله أحياناً نراجعه لتوقيع بعض الأوراق ونجلس معه جلسات ونتداول بعض القضايا والمواضيع فنلمس سعة صدره وأفقه.
وعندما تولى الشيخ محمد عمر توفيق وزارة المواصلات عين الأخ فيصل وكيلاً مساعداً ثم وكيلاً للوزارة ومضى في العمل وأجاد وأفاد ونجح، ثم اختير رئيساً لمصلحة سكة الحديد بالمرتبة الممتازة، فانتقل إلى مقر عمله الجديد في المنطقة الشرقية وأحسسنا بفراغ كبير، وقد أصبح في المنطقة الشرقية عَلماً بارزاً من أعلامها وركناً من أركانها. وقد دعاني في إحدى المرات لزيارة المنطقة وفعلاً تمت الزيارة وسكنت في ضيافة السكة، وجلست معه عدة جلسات، سعدت فيها بالمناقشات والمكاشفات والمحاورات هذا بعد أن تركت رئاسة التحرير، وهو في كل أحواله حسن العشرة والسيرة، طيب السريرة، متسامحاً لا يحمل على أحد ولا يحرد ولا يحقد، ولا يحب الغمز واللمز، وهذه من صفات الرجال الشرفاء الكرماء ولا غرو فهو كريم المحتد سليل الأبوين.
ومن جوانب شخصيته أن له إسهامات إيجابية في المجالات الرياضية فهو من أوائل من ألقوا المحاضرات في الأندية الرياضية حيث ألقى محاضرة في نادي الهلال، وأصبح عضواً ونائباً ورئيساً لمجلس إدارة النادي، كما شارك في الاتحاد السعودي لكرة القدم نائباً للرئيس، وفي المنطقة الشرقية تولى رئاسة مجلس إدارة نادي النهضة والرئاسة الفخرية للنادي، وهو من أكثر الشخصيات الرياضية التوافقية والذي يجمع الجميع على احترامه وتقديره. ومما لا يعرفه أكثر الناس أن إسهامه في مجال التعليم تجاوز التدريس في الجامعة فهو من المشاركين في تأسيس مدارس الرياض ومدارس الظهران الأهلية وغيرهما من المؤسسات التعليمية. أما في مجال الصحافة، فعلاوة على دوره في تأسيس وإدارة صحيفة الجزيرة، فقد انضم إلى مجلس إدارة صحيفة اليوم في المنطقة الشرقية وتولى الإشراف على تحريرها واستقطب لها الأستاذ عثمان العمير رئيساً للتحرير لفترة لم تطل، كما أسس جريدة الرياضي، وكان من المؤسسين في صحيفة الوطن. ألم أقل لكم أنه كان رجلاً وطنياً أسهم في خدمة وطنه في مجالات عديدة. وفي الجانب الإداري عدا المناصب التي تولاها، فقد رأس لجاناً ووفوداً ومثل المملكة في عدة مؤتمرات دولية وكان يحسن تمثيل المملكة ويعطي انطباعاً حسناً عن بلاده بحكم أسلوبه في الحديث وقدراته اللغوية عربياً وإنجليزياً أولاً، ودماثة خلقه وحسن تعامله مع الناس ثانياً. أما عن الجانب الخيري والمجتمعي في حياته فلا يمكن أن تحيط به هذه المقالة فقد كان رحمه الله كريم اليد محسناً وكان يخفي حسناته، وأذكر كيف كان يجمع بعض المبالغ ثم يضعها في أظرف متفرقة ثم يخفيها في جيوب ملابسه ويوزعها بطريقته على من يشعر أنه مستحق إما ضيفاً قادماً أو محتاجاً أو لاجئاً إليه وقد سمعته مرة يعتذر ممن يعطيه فتذكرت قول القائل: (إن الكريم ليعطي وهو يعتذر)، وهكذا أصحاب الخلق الرفيع يعطون ويعتذرون، وهذه من أخلاق الشيخ فيصل وبعض من مزاياه وسجاياه، كما أن له أيادي بيضاء على كثيرين ممن عرفوه ومن كانوا يلجئون إليه للمساعدة وكان فيه نخوة ومروءة ورجولة وذلك غير مستغرب على هذه النماذج الكريمة المشرفة.
وجانب آخر في سيرته أن له صلات واتصالات عديدة وكثيرة بشخصيات عربية، وأذكر أنني تعرفت عن طريقه على الأستاذ محمد الفرحاني سكرتير دولة الرئيس فارس الخوري رئيس البرلمان السوري في العهد الوطني والذي يعد من أقدم الشخصيات العربية والعالمية التي درست في السوربون ثم رأس إحدى دورات مجلس الأمن وكان عروبياً حجة في القانون الدولي عالماً به ومرجعاً فيه، وكان صديقاً للملوك والزعماء والرؤساء، وقد زرت منزل حفيدته كوليت خوري في دمشق في إحدى الزيارات بصحبة الصديق الفنان السوري فؤاد بركات، وفي الصالون الكبير أرتنا صوراً لجدها مع الملك فيصل حينما كان وزيراً للخارجية وزار الشام في الأربعينيات، كما شاهدنا صوراً كثيرة للرئيس فارس الخوري مع عدد من زعماء العالم. المهم أن الأستاذ الفرحاني حل ضيفاً في الرياض وسكن في فندق صحارى بالاس مقابل مطار الرياض القديم وقد أقام له الأستاذ فيصل حفل غداء دعا إليه عدداً من المثقفين، وسرنا أن الأستاذ الفرحاني أخبرنا أن فارس الخوري مات على الإسلام لأن هذا العقل الكبير حاشا أن يظل أو يزل إن شاء الله. وقد أكد هذه المعلومة بعد مدة الشيخ علي الطنطاوي في إحدى حلقات برنامجه نور وهداية لما سئل عن فارس الخوري فذكر أنه كان أحد طلبته، وقال إنه سر بأن فارس الخوري مات على الإسلام والحمد لله.
وبعد فهذه لمحات وومضات عن سيرة ومسيرة أخي الشيخ فيصل بن محمد الشهيل، سطرتها حين علمت بوفاته، أحبرها وقد ركبني الهم وسالت الدموع، كيف لا وهو جزء من حياتي وبداياتي لأنني أدركته في شبابي يوم كنت شاباً مندفعاً وكان يكبرني ويوجهني رحمه الله، وحين تبادلت التعازي بالهاتف مع شقيقه سلطان حاصرتني العبرات وحشرجت الكلمات فلم أستطع إكمال المكالمة، فماذا أقول وماذا أدع وأنا في مجال الرثاء في شخص يجل الرثاء فيه:
يجل الخطب في رجل جليل
وتكبر في الكبير النائبات
أجل حملت على النعش المعالي
ووسدت التراب المكرمات
العزاء لأبناء وبنات وإخوة وأسرة الفقيد، كما أعزي نفسي وكل من عرف هذا الرجل الكبير داخل الوطن وخارجه، رحم الله الشيخ فيصل وأدخله مدخلاً كريماً وأعلى منزلته في عليين.
** **
- عبدالرحمن بن فيصل المعمر