د. جمال الراوي
لا يزال الإنسان في بحثٍ دائم عن الخلود في الحياة الدنيا، لا يكلّ ولا يملّ، يريد أنْ يتخلّص من المُنغِّصات التي تلاحقه، ومنها الموت، الذي يتربّص به في كلّ حين، ولا يتركه يتمتّع أكثر وأكثر!... فتجد هذا الإنسان المغرور الذي حصل على بعضٍ من العلوم والتقنية، يحاول جاهداً أنْ لا يذهب إلى هذا المصير الذي ينتظره، لا يدري بأنّ البُروج المُشيّدة والقصور والعقاقير لا تستطيع جميعها، أن تَصْرِف عنه هذا الكابوس!
من يراقب المشهد، يجد عجباً، فالشلّال لا ينقطع، الأرحام تقذِف -في كلّ حينٍ- أفراداً جُدداً لتضعهم فوق الأرض، يسيحون فيها حتى حينٍ، بينما القبور والأتربة تبتلع كلّ يومٍ أعداداً أخرى، يذهبون إلى مصيرهم المحتوم، الذي ينتظرهم!... وهذا المُنتهى والمآل تعرفه البشرية جمعاء، لكنهم لا يعرفون ما يحدث بعده، يظنّونه نهاية مشوار الإنسان فوق الأرض، وحجّتهم أنّهم لا يسمعون للمطمورين تحت التُرابِ، نَفَساً ولا صوتاً ولا رِكزاً، ويقولون بأنّ أحداً من هؤلاء الموتى، لم يعدْ من جديد، ليخبرهم عمّا رآه تحت التُراب!
ولا يزال الإنسان يبحث عن كشف الأسرار التي تحيط به، قد ينجح في كشف بعضها، ويفشل في أخرى، ومنها ظواهر كثيرة كالنوم والروح والأقدار وغيرها، ويكاد يكون الموت المحور الأهم في اهتماماته، يبحث عن أيّ شيءٍ يلغيه من حياته، ولكنّه لن يستطيع مهما حاول وبحث!
من ينظر إلى خلفه، في أيّة لحظة من اللحظات، سيجد يوماً قد رحل؛ فيحاول حِساب دقائقه ولحظاته، فيجدها لا تُعدّ ولا تُحسب، لأنّها ساعاتٌ كثيرة بذّرها وأسرف في إنفاقها، ولم يبالِ فيما قضاتها، لأنّها كانت مجانيّة، لا تستدعي منه بذل الكثير من الجهد في إحصائها، لذلك لا يجدْ من داعٍ لصرف المَشَقَّة والمُكابَدَة والعَنَاء في هذا الهراء؛ لأنّها لحظاتٌ مبذولة لا تستحقّ التوقّف عندها، ولم تكن بذات أهميّة، في هذا العُمر الموغل في الأمل، والطامح في المزيد!... وما الحاجة في البحث في عمرٍ ماضٍ؛ بينما ينتظر المستقبل والمستقبل ينتظره!
{قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (البقرة: 259)، من يعود إلى معادلة الحساب، سيجد أنّ هذا المستقبل ما هو إلّا أكذوبة، فقد كان بالأمس ينتظر إجازة نهاية الأسبوع، وقد جاءه، وها هو يتمتّع بها، وهو، الآن، ينتظر أياماً أخرى، وسيدرك بأنّ المستقبل وهماً وخيالاً، لا وجود له؛ لأنّه أيامٌ تتلاحق وتمضي، يمر العمرُ فوقها سريعاً، مُخلّفاً أعداداً هائلة من المستقبل، ولن يستطيع أيّ واحدٍ منّا الاستقرار عند مستقبلٍ نهائيّ واحد؛ لأنّه سلسلة من أوهام متلاحقة ومتراكبة، يدعم بعضها بعضاً؛ فتبدو مجرد حقيقة كاذبة ومزيّفة: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140).
في واقع الأمر؛ نحن نعطي لهذا المستقبل سِعة ومقداراً كاذباً، ونمدّ له في الأمل، ونعطيه بُحْبُوحَة ورَحَابَة في ثنايا أعمارنا، بينما هو يأخذ -في كلّ مرّة- جزءً منها، على غير درايةٍ منا؛ لأنّه يغرينا بالآمال التي يحملها لنا، ولا ندري بأنّه ماهر يأخذ منّا الأوقات واللحظات، ثم يغرينا بأنّ لديه المزيد، فنمضي لاهثين وراءه، نطلبه ونرجوه أنْ يقدم لنا المزيد!... ولكنّه، مستقبلٌ غامض؛ لأنّه، في يومٍ ما سوف يتوقّف عن إمدادنا بالمزيد، وسوف يتوقّف عدّاده في الحساب.
ولو فكّر أحدنا في الأمر كثيراً؛ لعرف بأنّ المستقبل الحقيقي ليس في هذه الحياة الدنيا، وليس في نهارها ولا في ليلها، ولا في حلوها ومرّها، ولا في ضنكها وسعادتها، وإنّما المستقبل هو ذلك الذي يبدأ فيه العدّ والحساب بعد أنْ يتوقّف هذا المستقبل غير الحقيقي عن الحساب، ويبدأ المستقبل الحقيقي بعد الممات!... وقد فاز وربح من عرف بأنّ مستقبله يبدأ بعد أنْ يوسّد التراب... فهو يسعى يكدّ ويتعب لمستقبله في هذه الدنيا، ولا يدري بأنّ مستقبله يخدعه ويأخذ منه أيامه ولياليه بالمجان؛ لأنّه «العاجلة» التي قال عنها القرآن الكريم: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} (الإسراء: 18)، بينما المستقبل الأبدي هو الآخرة التي قال عنها القرآن الكريم: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} (الإسراء: 19).