«الجزيرة» - حاوره - جابر محمد مدخلي - رجال ألمع - رُجال:
رجل طبيعي يرى في الطبيعة عائلته الأزلية، وأنه مسكون بالأمكنة، وخرير الماء، وضوء الشمس الخارج من بيوت التاريخ. درس الجغرافيا فوجدناه ونحن نفتش في تاريخ رجال ألمع وأمكنتها هو جزء من جغرافيا البيئة والمكان.
تحول بعد تقاعده إلى صديق حميم للحضارة والتراث، وكان علينا أن نقف أمامه كعلم من أعلام هذه المنطقة المشرعة أبوابها دومًا لكل ما له علاقة بالتاريخ والإنسان والطبيعة والمكان كمنجم كبير لا يفتأ أن يقدم لنا كل يوم واجهة جديدة تلهمنا وتغذينا بفكر حضاري جذوره بالأرض وملامحه على وجوهنا.
وحول عنوان حلقتنا الرابعة حوار التراث والحضارة والفنون كان علينا المثول أمام رجل التراث باعتباره أحد مناجم الذاكرة التي نبحث ونفتش عنها بحثاً عن إطار حقيقي وواقعي للخروج برؤية شاملة وطبيعة باقية تربطنا بها دومًا وأبدًا... نص الحوار:
* الأديب الأستاذ علي إبراهيم مغاوي.. من مدرس جغرافيا إلى حاضن للتراث، ومنافح عن الطبيعة والمكان.. كيف انقلبت الخريطة بداخلك؟
- فهمي لموضوع مهارات الحياة من خلال قابليتها للثابت والمتغير حسب الميول الشخصية والنفعية في الحياة، ربما حدث الذي سميته انقلاباً أنني في مرحلة ما تأثرت كثيرًا بلغة الأرض وغناء الأماكن وتزامن ذلك مع انطلاق أهالي قريتنا التراثية إلى حفظ التراث وصونه عام 1406 هجرية وكان لدي - وقتها - أفكارًا وتطلعات لمستقبل مدهش للاستثمار الثقافي والفني مدهش عليّ أن أكون عضواً فاعلاً فيه، وهذا ما حدث لولا ذوبان المقاصد والطموحات في أملاح العاطفة التي خفضت سرعة تحقيق الأهداف وخفضت الدوافع لها بالإضافة إلى طبيعة المجتمعات غير المعرفية التي تكتفي بإعادة إنتاج المعرفة المتاح فقط، وهذا ما بطَّأ دور المؤسسات المجتمعية ربما على مستوى الوطن. لكنني كنت وما زلت عاشقاً طموحاً لمهاراتي الحياتية بتحولاتها أو انقلاباتها.
* عُرف علي مغاوي بعشقه وتتبعه «للقط العسيري»، ولربما كان أكثرنا في الوطن فرحًا بانضمامه لقائمة التراث العالمي بعد اعتماده من قبل منظمة «اليونسكو» كأهم العناصر الجمالية.. ما الذي حدث قبل اعتماده وليلة إعلان هذا النبأ الجميل؟
- هذا الموضوع ضمن آثامي العشقية الشاغلة.. بدأ اهتمامي بهذا الفن منذ قراءتي لكتاب الأستاذ/ محمد عمر رفيع (في ربوع عسير) الذي ضمنه أسطراً قليلة عن هذا الفن قبل 75 عاماً تقريباً بتلك الدهشة وذلك التوصيف، وأنا الذي عاش طفولته في بيوت طافرة بالألوان والأشكال الفاتنة.
واجتهدت - مشاركاً - مع فريق من الجمعية السعودية لحفظ التراث (نحن تراثنا) على خلفية الاهتمام السابق من جهات عدة مثل السياحة وبعض فناني قرية المفتاحة والمهتمين والمهتمات من المجتمع المحلي، وكنت مؤمناً بأنه سيرتقي إلى التراث العالمي، لكن دهشتي بتوظيف مفرداته وألوانه ضمن الاحتفال باليوم الوطني كانت حافلة ومفعمة بالراحة والرضا وها هو الآن أصبح أيقونة فنية وطنية لا يبدأ من اعتدادنا به ولا ينتهي عند بيوتنا وملابسنا والكثير من مواعيد الأيام الملهمة في المملكة.
* «القط العسيري» مرة أخرى.. جميع بيوت عسير من جبال السراة وتهامة الاصدار والسهول ترى فيه ضوءًا طبيعيًا لا يخفت حتى في حضرة الظلام.. كيف صنعت المرأة العسيرية منذ القدم هذا الإشعاع الطبيعي الذي أقنع أعظم المنظمات العالمية بجعله ضمن تراثها؟
- هذا الفن يراه البعض أشكالاً وألواناً فقط، بينما له دلالات عميقة وتكوينات فنية متكاملة ورامزة، ولهذا نجح في إلهام الكثيرين بتصاميم رافدة للمبدعين في مجالات كثيرة.
وهو موجود منذ مئات السنين في تهامة وفي السراة وستقرأ لي قريباً -بإذن الله- كتاباً موسوماً (جغرافية الألوان والعمران في عسير)..
أما إبداع نساء عسير فقلت عنهن ذات روعة:
هناك قلوب تشدك إلى الحياة والفن والمطر..
وتربطك بالطيبة والرسم والأمل، وتعلمك رقصات الطير والغناءَ..
وتذيقك طعمَ القهوةِ المرةِ وحمرة الزعفران..
هناك قلوب تقود الناس إليها لتعلمهم همس القرى ووشايات القط..
عندما عشقت لأول مرة
رافقتها طقوس الفن والحب والنوافل والأشجار والوتر إلى جهة الأقحوان والريحان والجمال..
* بحكم تواصلكم مع العالم الخارجي كسفير مُحِب لتراثه ومتطوع للتعريف بالتراث السعودي، ما الذي يراه الغرب لينجذب لتراثنا أكثر منّا؟
- بلادنا كنز من الآثار والتراث والقيم، كانت بعيدة عن عيوننا وفي منطقة معتمة بالنسبة للعالم من حولنا، فقد تسببنا في فترات ماضية في تقديم بلدنا بطريقة غير ملهمة ولا محفزة، بل وسطحية وشكلانية في مناسبات وطنية وعالمية كثيرة.. والذين يرقبون الحراك الوطني الراهن يعلمون الفرق بين المرحلتين الماضية والراهنة والآن نحن نقدم نفوسنا كما نحن لكن باحترام وتقدير وانتماء لمقدراتنا، ولأنني مثلت بلدي سابقاً فأنا أحد الشهود على الفرق الكبير. أجزم أن القيم والشيم الخلقية العليا من أهم ما يتتبعه القادم من الخارج وما يرغبه الزائر من المواطنين والمواطنات، وما لدينا من النواميس والمثل الخلقية العليا وما نبدعه في بلادنا سيجعل النشاطات الإبداعية التي كان المجتمع لا يقدرها ولا يعول عليها بل وينظر إليها دون تقدير ستكون هي نقاط الضوء التقنية الملهمة، ووقود التطور الفعلي السريع ومحفز الطموح في المملكة العربية السعودية.
* كتابكم «رُجال.. ذاكرة قرية عربية» من اللغة العربية إلى أهم لغتين بالعالم الإنجليزية والفرنسية، والذي يقرأه سينادي بتدريس أجزاء منه في مادة دراسية عن التراث والحضارة السعودية؟ هل وصل هذا الكتاب لدى الغرب أكثر منّا؟ وهل ترى معي بأهمية وجود مادة دراسية بهذا الخصوص، وتحديدًا بهذا التوقيت المهم في مسيرتنا؟
- كتابي (رُجال.. ذاكرة قرية عربية) يعتبر طبعة منقحة من كتابي السابق (حاضرة رجال.. النسق الاجتماعي وثقافة الأثر)، وكان باللغة العربية وباللغة الإنجليزية، وعندما انتهت نسخه دعمني سمو الأمير/ سلطان بن سلمان بن عبد العزيز بطباعته عندما كان رئيسًا للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. وكان كتابي هذا الأخير بالعربية والإنجليزية والفرنسية.
وعليَّ أن أسجل العرفان لدور أختي الأستاذة/ مهدية دحماني، زوجة أخي الشاعر/ إبراهيم طالع الألمعي في كثير من مراحل إنجاز الكتاب وترجمته.
وصحيح أن نُسَخه قد انتهت لكن الطلب عليه باللغة الإنجليزية كان أكثر ولم يمكنني تسويق النسخة الفرنسية كما يجب.
بالنسبة لموضوع علاقة مناهجنا بأرضنا وتراثنا فقد أقصت المناهج كل ما له علاقة بتراثنا وماضينا عموماً لفترة طويلة، لكن هذه الفترة حافلة بالتركيز على مقدرتنا الوطنية وثقافتنا وفنوننا وحياتنا عموماً.
* بما أنكم مرشد سياحي عالِم بالمكان والطبيعة في وطننا، هل ترى أنّ وزارة السياحة لدينا جاهزة لتقديم نماذج مشابهة لنموذجكم قادرين أو قادرات على إنجاح هذا المجال الحديث لدينا؟
- عملي في الإرشاد السياحي امتداد لحبي للسفر والتنقل والتعرف على الناس والأماكن، ووزارة السياحة تجتهد حالياً لتأهيل المرشدين مهنياً وتلزم المرشدين برفع درجات معلوماتهم، وسيتحقق هذا، غير أن هناك تحديات على وزارة السياحة تذليلها باعتبار الإرشاد السياحي وجهًا مهمًا يقابله الزائر ويعتبره ممثلاً للوطن. فإن الكثير من المرشدين والمرشدات يعملون في السياحة بشكل مميز ومشرف للمملكة وللمناطق التي يعملون فيها.
بينما لابد من العناية بفئة تعمل في هذا المجال دون استشعار للمسئولية الوطنية في الإرشاد السياحي.
* أكثر من أربعمائة قطعة تراثية تاريخية بمتحفكم السياحي الواقع بمدينة أبها.. واسمه فاطمة.. كيف استطاع هذا الاسم خلق إيقاع جاذب بهذا القدر؟ وهل لدينا نقص في عدد المتاحف السياحية المماثلة؟
- وجهات الجذب السياحي في الفترة الحالية ليست في تجميع التراث والمقتنيات وجلعها في أماكن ورفوف بانتظار العيون القادمة.
النجاح في جعل الأماكن وجهات سياحية مميزة يعتمد على التخصص وعلى النوعية ومتحف فاطمة له اتجاهان: الأول نوعي يهتم بثقافة المرأة من حيث اللبس والحلي الفضية وأعمالها في فن القط العسيري.
والثاني يعتمد على المعلومات المركزة عن أنساق الحياة بشقيها المادي والمعنوي وعرض الأفلام القصيرة عن هذه الأنساق.
فالسياحة الآن تجارب يعيشها الزائر ويستمتع بها سواء في علاقته مع الطبيعة أو مع الناس.
* مع إنشاء شركة متخصصة لتطوير السودة وأجزاء من رجال ألمع.. ما الذي تتوقعونه في بالأعوام المقبلة؟
- تعويلنا على شركة تطوير السودة ورجال ألمع يبدأ من حضورها بقوة وطموحات عليا والنشاط السياحي يمثل جوانب تاريخية واقتصادية وإبداعية ومجالات أخرى ليس أقلها الاستثمار في الشباب وخلق سوق أعمال محلي كبير. وتنوع الطبيعة في منطقة عسير كبير سيدعم طموحاتنا في سياق عمل الشركة. وأنا متفائل جداً بنجاح كبير وأتمنى نجاح الشركة وتحقيق الأهداف.
* هل ترى معي بجعل يوم سعودي أو أسبوع مخصص للاحتفاء بتراثنا الوطني على غرار اليوم العالمي للتراث، وكيف تتوقع مردوده لو تحقق فعلًا؟
- تجربتنا مع الأيام والأسابيع المتخصصة ليست مشجعة لأن التنفيذ يتمرد على التخطيط ولولا ما أفسدته علينا المحسوبيات والمصالح الخاصة لكان أسبوع التراث مطلباً ملحاً لكل مجتمع شرط أن يتعامل المنفذون مع التراث باحترام في عصرنته وحساسية عالية في تقديمه بأساليب راقية ورفيعة المستوى.
* أخيرًا وكأحد أعلام رجال ألمع، ومستشار سابق بهيئة السياحة -وزارة السياحة اليوم- وعاكف على اكتشاف مناجم التراث والطبيعة والمكان الحضاري بوطننا ما الذي تنادون به وتتمنون تحققه بهذا المجال الحيوي؟
- توطين خبرات الناس وتوثيق مخزونهم القَيِّم بأمانة النقل، وحفظ حقوق الذين يحملون الخبرات وعدم تجييرها لصالح موظف دونها أو إداري قدمها باسم إدارته. فعلينا تمثيل وتقديم ثقافة الوطن وتراثه بشقيه المعنوية والمادي بما يرقى إلى أهميته ومكانة من يمتلكون مضامينه وعدم كسر أعناق النصوص والمتون ليتناسب ورضى مسئول أو ما يطلبه الجمهور ففي هذا تشويه ولا علاقة له بالتطوير.