د. محمد عبدالله الخازم
وضع سمو ولي العهد الكرة في مرمى جامعة الملك سعود، حين أشار سموه إلى تطلعه إلى أن يراها ضمن أفضل عشر جامعات عالمية، وذلك ضمن سياق رؤية 2030 ومفرداتها المتمثلة في تنمية الموارد وكفاءة الإنفاق وترشيد الإدارة والتنمية البشرية وغيرها. عبر جريدتكم، جريدة الجزيرة، نقدم قراءة حول تطوير جامعة الملك سعود، دعماً لتحقيق رؤية القيادة في أن تصبح الجامعة الأولى في بلادنا ضمن مصاف أفضل الجامعات المتميزة عالمياً، بحلول 2030م.
تنظيم الجامعة اقتصاديًا
سنذهب في نهاية المطاف إلى مرجعية تؤكد إنجازنا، وقد تكون أحد التصنيفات العالمية، لكن النصيحة الأولى هي عدم القلق أو عدم النظر للتصنيفات في هذه المرحلة لأن ترتيب البيت الداخلي أولى من الركض خلف معايير رقمية. العمل لغرض التصنيف فقط يشكل إعاقة للتطوير الشامل، والجائزة والترتيب المتقدم يأتيان طوعاً كنتيجة محصلة لعمل وتميز يسبقه، لذا نقترح تأجيل الاهتمام بهما قليلاً. بالتأكيد، خارطة الطريق محكمة التفاصيل تتطلب توفر البيانات الحقيقية والدراسات المعمقة، لذلك نشير إلى أننا نقدم خطوطاً عريضة ورؤى مقترحة للمستقبل، علها تكون فرصة للحوار حول تطوير جامعة الملك سعود والجامعات السعودية بصفة عامة.
يدور حديث حول تحويل الجامعة إلى خيرية أو غير ربحية، هذا الأمر لا يهم بقدر ما هو مهم استقلاليتها في مواردها وأنظمتها. على مستوى التعريف الدقيق، لست أحبذ إطلاق مصطلح «خيرية» على الجامعة رغم تقديري لاستخدامه محلياً بسبب غياب التشريع الواضح الذي يفرق بين الخيرية وغير الربحية، وشيوع استخدامهما كمصطلحين مترادفين. لن تكون الجامعة خيرية تدرس الفقراء بالمجان، فهذا يتنافى مع مفهوم التنافسية والعالمية اللتين تؤثر فيهما القوى الاقتصادية. الفرق الأهم بين الجامعة غير الربحية والربحية يتمثل في كيفية توزيع الأرباح. الجامعة الربحية توزع أرباحها على ملاكها الذين أسسوها، بينما غير الربحية تعود أرباحها للمؤسسة لتستخدم في تنميتها وتنمية أصولها وعوائدها واحتياطاتها. وحيث إن الدولة لن تبيع نصيبها في الجامعات الحكومية للقطاع الخاص فالمتوقع تحول جامعة الملك سعود إلى مؤسسة غير ربحية مستقلة ومن ثم دعمها لتطوير وتعظيم عوائدها واحتياطاتها وأصولها الدائمة الوقفية وغير الوقفية. المسمى أو التصنيف الاعتباري للجامعات - جامعة سعود في هذا المقام - لا يجب أن يعيق تطوير آليات التشغيل وتنويع مصادر الدخل والاستثمار.
إحدى معضلات الجامعات السعودية هو غرقها في الأكاديميا، متناسية أن الاقتصاد والفكر الإداري والاستثماري هو أساس تطوير المؤسسات. لذا أرى أن جامعة الملك سعود بحاجة إلى عمل كبير في إصلاح ملفاتها المؤسساتية، الإدارية والاقتصادية، قبل أو بالتوازي مع الملفات الأكاديمية. في الجانب المالي، من أبجديات الأمور المالية للجامعات العالمية وجود ميزانيات تشغيلية واحتياطات مالية وموارد استثمارية ووقفية. على سبيل المثال: رأينا - إثر جائحة كوفيد19 - جامعة جون هوبكنز تقلص بعض وظائف أعضاء هيئة التدريس وجامعة ييل تتفاوض مع مجالسها العليا للاستعانة بالاحتياط في حال استمرت الجائحة، رغم أنهما من أغنى الجامعات الأمريكية. يحدث ذلك لأن إدارة الجامعة لديها ميزانية تشغيلية وموارد عليها تحقيقها، واحتياطيات وأصول واستثمارات ليست متاحة لها بشكل مطلق بل وفق ضوابط وظروف تقررها مجالسها العليا. تأثر الميزانيات التشغيلية لبعض الجامعات بسبب الجائحة أبان تميز إداراتها في التعامل مع الواقع..
النظام المالي في جامعة الملك سعود لا يوجد فيه مثل هذه التفاصيل المحفزة (ميزانية تشغيل وأصول واحتياطات واستثمارات) على التنافسية والاستقلالية المالية، مما يعني حاجتها إلى تطوير نظام يشابه أنظمة الجامعات العالمية التي تريد منافستها. النظام الحالي للجامعة لا يختلف عن نظام أية دائرة حكومية بيروقراطية، وقد لا تلام في ذلك لأن هذا هو النظام المالي التقليدي الرعوي المتعارف عليه، الذي لا يربط الميزانيات بمعايير المخرجات، حجماً وجودةً. الجامعة منحت ما تحتاج إليه وأكثر دون قياس واضح للمخرجات، بدليل أن ميزانيتها تبلغ مليارات الريالات سنوياً وقد بلغت قرابة 9 مليارات ريال في إحدى السنوات. النظام المالي للجامعات السعودية يجب أن يتم إصلاحه لتكون ميزانيات بناء على مخرجات أو منتجات يتم قياسها..
وللتوضيح، هذا يعني ضرورة توفر الدعم الحكومي للجامعات، فأغلب دول العالم تدعم جامعاتها، حتى في الدول الرأسمالية المتقدمة حيث تقدم الحكومات المحلية والمركزية - حسب أنظمة الدولة - الدعم وفق آليات مرتبطة بمعايير إنتاجية وخدمات واضحة. إشكاليتنا هي في آلية الدعم، لذا أطالب بتغيير آليات الدعم والميزانية ليكون عن طريق توفير منح دراسية للطلاب وهو أهم مصادر ميزانيات التشغيل الجامعية، ودعم للبحوث والابتكارات ودعم للمشاريع الكبرى، وعن طريق شراء خدمات تقدمها الجامعة للحكومة أو للمواطنين نيابة عن الحكومة كشراء الخدمات الطبية، وغير ذلك. جامعة الملك سعود ينتمي لها قرابة 60 ألف طالب، فلو اعتبرنا الرسوم الدراسية للطالب الواحد تبلغ 40 ألف ريال فإن دخل الجامعة من الرسوم الدراسية وحدها سيبلغ 2.4 مليار ريال سنوياً، وهو ما نفترض أن يكون مكوناً رئيساً للدعم أو الميزانية الحكومية للجامعة، إضافة للموارد المختلفة. سبق أن شرحت، وفق الشريحة المرفقة، كيف يمكن إعادة توزيع ميزانيات الجامعات السعودية بطريقة موضوعية وعادلة بشكل يكفي لأن تتولى الحكومة دعم تدريس نصف مليون طالب جامعي إضافة إلى دعم بقية المشاريع والبرامج (محمد الخازم، جامعة 2030، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2018).
موارد الجامعات بصفة عامة، تشمل الآتي:-
(1) الرسوم الدراسية كمنح عن طريق الدولة أو الجهات المانحة أو بالدفع المباشر من الطلاب وذويهم.
(2) الاستثمارات، مباشرة أو عبر شراكات مع القطاعات الأهلية والحكومية الربحية وغير الربحية.
(3) الموارد الخيرية والوقفية سواء كانت تبرعات مباشرة أو عائدات استثمارات وقفية وخيرية.
(4) الدعم الحكومي المباشر سواء للمشاريع أو غيرها.
(5) رسوم الخدمات التي تقدمها: تعليمية، تدريبية، بحثية، استشارية، طبية وغيرها.
على جامعة الملك سعود إصلاح أنظمتها في هذا الشأن، لتكون جاهزة لتنمية موارد ذاتية تستحق الإشارة إليها. كما أنها بحاجة إلى تطوير أدواتها الاستثمارية لتتجاوز مجرد تأجير بعض ممتلكاتها، كما فعلت مع ملعبها، إلى تملك شركات تشغيلية تقوم بتشغيل تلك الممتلكات والمقرات، أو الاستعانة بشركات تشغيل متخصصة لتقوم بالأمر نيابة عنها. على سبيل المثال: الجامعة تملك بنية تحتية متميزة في مجال الخدمات الطبية، لكن أساتذتها يعملون خارجها وهي تدفع رواتبهم ولم تتمكن من تحويل خدماتها الصحية إلى مورد استثماري بشكل جزئي أو كامل، على الرغم من الربحية العالية للخدمات الصحية. هذا دليل ضعف تنظيمي واستثماري لدى الجامعة وغرقها في الأكاديميا التي تراعي مصالح الأفراد قبل المؤسسة، أحياناً. المطلوب من الجامعة تطوير مؤسستها الوقفية أو الخيرية الحاضنة للأوقاف والتبرعات وذراعها الاستثمارية عبر شركتها القابضة التي يمكن أن يتفرع منها شركات تشغيل/ خدمات، طبية، تقنية، وغيرها، إضافة إلى تنمية بقية الموارد المشار إليها أعلاه. جامعة الملك سعود تملك إمكانيات اقتصادية كبرى، تتطلب آليات تفكير مختلفة عن ما هو سائد في الوسط الأكاديمي السعودي.
هيكلة الموارد البشرية بالجامعة
الكفاءة تعني مدخلات وعمليات ومخرجات، فإن كانت المدخلات عالية الكلفة والمخرجات متواضعة ودون حجم المدخلات فهذا يعني ضعف الكفاءة والاستفادة المثلى من الموارد المالية والبشرية ومن البنية التحتية الإنشائية الممتازة. جامعة الملك سعود تعاني التضخم في عدة مجالات وأهمها العنصر البشري الذي يستهلك جل ميزانيتها مع إنتاجية أو إبداع مخرجات دون المطلوب. تقدر رواتب منسوبيها بحوالي 4 مليار ريال سنوياً، عطفاً على عددهم الذي يتجاوز 22 ألف أستاذ وموظف وفني. لا يوجد إحصائيات دقيقة حديثة منشورة وإنما تقديرات بناء على إحصائيات تعود للعام 1439هـ. عندما نشير إلى معاناة الجامعة في ترهل أعداد الكوادر البشرية لديها، فأرجو ألا يغضب هذا الرأي منسوبيها الأعزاء. طبعاً، التضخم له طرفي معادلة، كل منهما يؤثر على الآخر، تضخم أعضاء هيئة التدريس والموظفين وتضخم الهياكل الإدارية التنظيمية والأكاديمية، ففي كلا الحالتين هذا التضخم لا يقود عادةً إلى زيادة الإنتاجية بل إلى ضعف كفاءة التشغيل اقتصادياً وإدارياً وأكاديمياً.
من واقع أعداد هيئتها التدريسية وإنتاجيتهم التي لا ترتقي لما هو مطلوب، أرى ضرورة إعادة النظر في حجم ونوع أساتذة الجامعة. أعتقد أن تخلص جامعة الملك سعود من 10 % من وظائف أعضاء هيئتها التدريسية، أو قريب من ذلك الرقم، بشكل كامل يعتبر مطلب إصلاحي اقتصادي مهم، يشمل ذلك الكفاءات غير المنتجة وأولئك المسجلين بالجامعة ويعملون خارجها أو يعتبرون العمل بها مجرد عمل (كاجوال) وفق المزاجية والفراغ. وسأضيف مقترح إحلال 10 % أخرى من الكفاءات المتواضعة الأداء بكفاءات حديثة محلية وأجنبية وفق معايير إنتاجية واضحة وصارمة، خلال مرحلة محددة، ثلاث سنوات مثلاً. وبالمثل يمكن النظر في إعادة تنظيم العمل الإداري المساند وكوادره المختلفة، كأن تستقطب الجامعة خبرات مميزة من قطاعات أخرى أكثر تميزاً، لتتمكن من إدخال فكر إداري حديث بالجامعة.
لن تتقدم المؤسسة في كفاءتها ما لم تصبح الوظيفة مرتبطة بعملية إنتاجية واضحة وليس مجرد وظيفة ضمان اجتماعي يبقى فيها الفرد طول العمر سواء كان منتجاً أو لا. وحتماً لا نطالب بتنفيذ هذه الإصلاحات بشكل عشوائي وإنما مع تطوير معايير أداء تقيس من خلالها إنتاجية الأستاذ والموظف والمسؤول في العمادة والقسم والوحدة والمركز والإدارة، وكذلك النظر في سلالمها التوظيفية ومحفزاتها المادية التي تقدر الإنتاجية والإبداع. عضو هيئة التدريس يعتبر مهنياً مستقلاً، لكن ذلك لا يعني غياب المعايير المتعلقة بأدائه والإنتاجية المطلوبة منه. هناك حاجة إلى نظام جديد ومختلف لأعضاء هيئة التدريس؛ تعيينهم وترقياتهم وما يحكم إنتاجيتهم ومكافآتهم، وغيرها. النظام الحالي غير محفز لعضو هيئة التدريس المتميز وللمسؤول على مستوى الكلية أو الجامعة لأنه ببساطة لا يقدر التميز بشكل كاف، ويجعل الأستاذ يعيش في مرحلة الراحة بسبب ضمان الوظيفة وإن كان منتجه متدنياً. لا يعقل أن يتساوى الأستاذ المبدع الذي يحضر منحة بحثية تقدر بملايين الريالات بذلك الذي لا ينتج حتى بحثاً واحداً في السنة، وليس مقبولاً أن تكون مكافآت رئيس الجامعة ومسؤوليها محصورة في الراتب دون النظر إلى قدراتهم في تطوير الأداء وجلب وتنمية موارد الجامعة وسمعتها وأداءها.
لقد دأبت الجامعة على القلق في مجال التدريس ومحاولة أن يكون جميع أعضاء هيئتها التدريسية من حملة الدكتوراه وعلى نظام عمل كامل لديها، وهذا أحد المفاهيم التقليدية التي ربما كانت مهمة في مرحلة تاريخية في التعليم الجامعي المحلي، لكننا تجاوزناها في الوقت الراهن. يجب ألا تقلق الجامعة فالكفاءات متوافرة بالبلد ويمكن التعاقد مع كثير منها بنظام الساعات أو المكافأة المقطوعة، بما في ذلك الأعضاء المستغنى عنهم، للقيام بمهام التدريس. كما يفترض ألا يثبت الأستاذ على وظيفته سوى بعد تجربة وإثبات قدرات لا تقل عن 3-4 سنوات من حصوله على الدكتوراه. الجامعات العالمية الكبرى تنهج ذلك الأسلوب وبعضها لا يزيد عدد العاملين فيها بوظيفة كاملة عن 70 % من كوادرها، والبقية يكون عبر تفرغ أو تعاون جزئي أو نظام عقد مؤقت ريثما يثبت جدارته للتثبيت على وظيفة كاملة. لهذا نشأ ما يعرف بمرحلة ما بعد الدكتوراه. جامعة الملك سعود، فتحت مسار ما بعد الدكتوراه لكنها، للأسف، تتعامل معهم كطلاب دراسات عليا أو كمساعدي باحثين لا علاقة لهم ببقية مفردات العملية الأكاديمية! أحد مبررات ضعف مخرجات الجامعات السعودية يتمثل في ضعف الجانب المهني والتطبيقي للخريجين وأحد أسبابه الاعتماد على أساتذة ليس لديهم ممارسة أو خبرات مهنية تطبيقية في مجالات تخصصهم، ولعل إشراك المهنيين وأصحاب الخبرات العملية الميدانية في العملية التدريسية والتدريبية يخدم في التغلب على بعض أوجه النقص هنا..
جامعة الملك سعود كنموذج للجامعات السعودية تسير وفق نظرة تقليدية لم تتطور منذ نشأتها في ما يخص مدخلاتها لأعضاء هيئة التدريس، وتتمثل في تعيين المعيدين حديثي التخرج وتسهيل دراستهم للدكتوراه ليصبحوا أعضاء هيئة تدريس بشكل رسمي. يجب تجاوز هذه النظرة واشتراط الخبرة المهنية أو العملية الكافية (مقدرة بعدة سنوات) في مجال التخصص قبل الانضمام للكادر الأكاديمي بالجامعة وجيب المنافسة في استقطاب كفاءات ثبت تميزها. هذا سيصب في تطوير الملاحظة المتكررة حول ضعف خبرات أعضاء الهيئة التدريسية من ناحية الإتقان المهني وفهم متطلبات أسواق العمل. يضاف لذلك، عدم الاستفادة بشكل جيد من جيوش المعيدين والمحاضرين وطلاب الدراسات العليا في العملية التعليمية، واعتبارهم كفاءات غير مؤهلة أو مجرد موظفين أو طلاب مؤقتين. على الجامعة الارتقاء بمستوى طلاب الدراسات العليا والاستفادة منهم في التدريس والبحث، وكذلك المحاضرين والمعيدين ليكونوا أعضاء هيئة تدريس فاعلين عبر سلم توظيفي يحافظ على نمو جميع موظفيها وإن لم يحصلوا على الدكتوراه، مثال ما تم تلخيصه في الجدول المرفق.
التطوير الأكاديمي
عندما نأتي للعمل الأكاديمي، فالفخ الذي تقع فيه كثير من المؤسسات الأكاديمية المحلية وغير المحلية منها، هو الانسياق خلف طموحات أساتذتها وعلمائها وتنافسهم في الاستقلالية بتخصصاتهم ومجالاتهم، فما أن يبرز مجموعة منهم في مجال معين حتى يطالبون بالاستقلال في قسم ثم في كلية وهكذا. ينتهي بنا المطاف إلى كليات وأقسام عديدة متشعبة في كل مجال، وتزداد الظاهرة حينما لا تلتزم الجامعة بنظام مؤسسي اقتصادي وتنظيمي محكم. بل إن نظام الميزانية والدعم الحكومي يحفز هذه التوسعات، حيث يزداد الدعم والوظائف والمشاريع كلما افتتحت قسماً أو كلية جديدة.
في الجامعات المتقدمة تأسيس قسم أو كلية يعتمد على القدرة على توليد موارد كافية له وإضافية للجامعة، بينما لدينا لا يوجد ما يثبت الجدوى الاقتصادية وربما حتى الأكاديمية لهذه الأقسام المتولدة بشكل كبير...
تحتاج جامعة الملك سعود إلى هيكلة تنظيمية لهذا الكم الهائل من الكليات والأقسام، التي توالدت بشكل كبير في كيانها، وأحد النماذج التي أقترح تبنيها في هذا الشأن - من خلال خبرتي في النظامين الكندي والأمريكي- تتمثل في نظام الجامعات الكندية، وأبرز معالمه التالي:-
1 - الفصل بين التخصصات الجامعية العامة أو المعرفية التأسيسية وبين التخصصات المهنية أو التطبيقية. العلوم والآداب (العلوم الإنسانية) مثلاً تعتبر تخصصات معرفية عامة بينما الطب والقانون والتدريس والإعلام وعلم النفس التربوي والصيدلة والتمريض والعلوم الطبية وغيرها تعتبر تخصصات مهنية. وفق هذا المنطلق نجد أن خريج المرحلة الثانوية يلتحق بأحد الكليات العامة وتنحصر في كليتين أو ثلاث، فقط. كلية العلوم (وتفريعاتها كالعلوم الصحية والعامة مثلاً) والآداب (وتفريعاتها أو مرادفاتها)، إلخ. بل نجد أن التعليم الجامعي المهني أو التخصصي مثل الطب والقانون لا يدرس بجميع الجامعات ويحصر في جامعة أو جامعتين بكل مدينة أو منطقة، فقط. تورنتو بعدد سكان 7 ملايين يوجد بها كلية طب واحدة فقط، ومثلها مدينة أوتاوا أو فانكوفر أو كالقري، والأمر ينطبق على القانون والتدريس وبقية التخصصات المهنية. هناك جامعات لا تقدم التخصصات المهنية رغم تجاوز عمرها ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن، وتجد بأن الطالب الذي لا يرغب التوجه لتخصص مهني جامعي يمكنه التخرج منها خلال ثلاث سنوات. من يرغب التوجه لتخصص تطبيقي يتوجب عليه دراسة مواد إضافية تؤهله لذلك ليتخرج من هذه الكلية في أربع سنوات قبل التحاقه بالتخصص التطبيقي، سواء كمرحلة بكالوريوس ثانية أو كدراسات عليا. فصل تدريس التخصصات العامة عن المهنية يتيح التأسيس الجامعي القوي للطالب قبل تخصصه المهني. ويساعد التركيز في التأهيل المهني/ التطبيقي وتطويره بشكل أفضل، بدلاً من إنهاك كليات مهنية بمواد وأقسام وتخصصات عامة.
2 - التنظيم الإداري للكليات إلى كليات (Faculties) ومدارس (Schools) فنجد كلية العلوم الصحية تشمل جميع مدارس التخصصات الصحية؛ مدارس التمريض والطب والصيدلة والتأهيل وغيرها. وبالمثل نشاهد كلية الهندسة تتبعها مدارس/ تخصصات الهندسة وكلية العلوم الإنسانية تتبعها مدارس العلوم الإنسانية. المدرسة يكون لها مدير أو عميد مشارك وقد يحمل الصفتين. هذا الأمر يقود إلى التخطيط لاستراتيجي المشترك للحقول التعليمية الكبرى وإلى تقليص تضخم الهياكل الإدارية وتقليص المركزية والاستفادة المشتركة من المقرات وأعضاء هيئة التدريس وغيرها من الموارد.
جامعة الملك سعود، حاولت قبل ذلك في فكرة قريبة وقلدتها جامعات أخرى، تمثلت في تأسيس وكالة الجامعة للكليات الصحية ولكن التجربة فشلت لأنه لم تحكمها رؤية علمية متكاملة وكان هدفها إدارياً بإيجاد مساعد لمدير الجامعة يتولى مساعدته في فهم التخصصات الصحية والتعامل معها، فتحول دور وكيل الجامعة للتخصصات الصحية إلى مستشار (برتبة وكيل جامعة) لمعالي مدير الجامعة والوكالات الأخرى. قد يتبع نموذج الكليات / المدارس كما هو أو نموذج مماثل أو وسيط بين هذا وذاك، من خلال فكرة تعزيز التكامل بين حزمة التخصصات أو الأقسام أو الكليات لكل حقل معرفي عام وتقليص المركزية التي تقود إلى مرجعية ثلاثين عميداً أو أكثر لمدير الجامعة مباشرةً (بعض المديرين يفوض إلى وكلائه في هذه المرجعية، لكن نتكلم عن أساس الهياكل التنظيمية) ...إلخ.
3 - الاستفادة الأمثل من أعضاء هيئة التدريس بحيث يمكن تعيين عضو هيئة تدريس في كليتين أو برنامجين أو أكثر (joint appointment) حسب تخصصه، كأن تجد أستاذاً من الطب يشارك بالتدريس في قسم التربية الرياضية أو التأهيل وأستاذاً من الهندسة يحمل لقباً كذلك في الطب، وهكذا.
4 - تعزيز البرامج البحثية والتدريسية المشتركة بين التخصصات، وذلك بفضل التنظيمات أعلاه. أذكر على سبيل المثال بأن رسالتي للدكتوراه شارك في الإشراف عليها ومناقشتها أساتذة من أقسام أو مدارس (وفق تسميتهم لها) الهندسة والتربية الرياضية والتأهيل الطبي. في بعض البرامج يتم تعزيز ذلك بشكل أكبر عبر مراكز بحثية متعددة التخصصات تضم أعضاء من كليات أو مدارس عدة.
يتضح من السرد أعلاه، ما أنا بصدد نصح جامعة الملك سعود به. إعادة دمج وتنظيم الأقسام والكليات بشكل يقلص مركزيتها والتفرقة بين التخصصات المعرفية والتطبيقية. لتكون الكليات المعرفية العامة هي المدخل الأول للطالب الجديد، قبل التحاقه بالتخصص المهني التطبيقي أو الإكمال فيها كتخصص معرفي عام.
كذلك في الجانب القيادي والأكاديمي، يجب أن نقلص هذه الحمول الأكاديمية التفصيلية على كاهل مدير أو رئيس الجامعة، فمهمة المدير أكبر من متابعة منهج أو ترقية أو بعثة أو نواقص معمل أو غيرها من التفاصيل الأكاديمية. يجب أن يوجد بالجامعة مسؤول عن الشؤون الأكاديمية، كيف ما شئتم تسميته، ليتفرغ رئيس الجامعة للجوانب التخطيطية ورسم ومتابعة الاستراتيجيات وجلب الموارد والتواصل الخارجي وغيرها من المهام القيادية. وبناء عليه، فليس شرطاً أن يكون مدير الجامعة بروفيسوراً قادماً من معمله البحثي، بل يجب أن يكون قائداً مفكراً ومخططاً استراتيجياً، سواء أتى من الحقل الأكاديمي أو خارجه.
التفاصيل الأكاديمية يطول شرحها، لكن اكتفينا هنا بالإطار العام المؤسسي أو التنظيمي. هناك مفردات أخرى مهمة في عمل الجامعات تستوجب النقاش مثل تعاونها الدولي، ومسؤوليتها الاجتماعية وخدمتها لمجتمعها وتطورها الفكري، إلخ. سأتجاوزها لأختم بأهمية تعزيز الممارسة الديموقراطية والحرية الفكرية في العمل الأكاديمي، بالذات في مجالس ولجان الجامعة الأكاديمية والعلمية. إن أردت معرفة القوة الأكاديمية لأي جامعة انظر كيف تحدث اجتماعات مجالسها ولجانها الأكاديمية والعلمية، سواء الصغيرة التي تقر منهجاً أو تمنح درجة علمية أو الكبيرة الممثلة في مجالس الجامعة العليا.