(1)
... وذات مساءٍ جدِّي، هاتفني الأخ والصديق الدكتور علي حسن الفقيه يبشرني بصدور كتاب والده الشيخ المؤرخ والمربي علامة القنفذة ومؤرخها الشهير حسن إبراهيم الفقيه -رحمه الله- الموسوم بـ(مدينة ضنكان الأثرية) ضمن سلسلته المعروفة: مواقع أثرية في تهامة، ووعدني بزيارة ليوصل إليَّ الكتاب!!
وها قد وصل الكتاب الذي أعادني إلى حياة الشيخ حسن -رحمه الله- يوم كان شغله وهمه هذا الكتاب.. فقد حدثني -رحمه الله- وفي آخر لقاءاتنا الثقافية عن مشاريعه القادمة بعد كتابيه المعروفين: مخلاف عشم، ومدينة السرين الأثرية وهو هذا الكتاب الجديد الذي بين أيدينا.
لقد أنجزه (علاَّمة القنفذة) قبل وفاته بأربع سنوات تقريباً، وذلك من خلال تأرخته لمقدمة الكتاب 1432هـ، ثم حل عليه المرض ليقعده عن استكمال النشر فظلت المسودات ضمن إرثه الثقافي.
ولم يتوان الأبناء - وهم من علية القوم تعلماً وثقافة وبراً بأبيهم - فأصروا على استكمال جهد الأب المرحوم -إن شاء الله- وإخراج البحوث التي كان يعمل عليها إبان صحته وعافيته. وكان هذا الإصدار الذي أتمنى أن يتبعه إصدارات متتالية فما زال في (السحارة) بحوث أخرى جديرة بالطبع والنشر -إن شاء الله.
(2)
لقد عرفت الشيخ حسن -رحمه الله- معرفة علمية وثقافية منذ أمد طويل.. وتابعت بحوثه وكتبه واستفدت منها وكتبت عنها دراسة تحليلية وقدمتها كمحاضرة في اللجنة الثقافية بالقنفذة عام 1432هـ.. ويتميز فيها بالحس التاريخي، والجَلَد التتبعي، والتحليل الأثري، والتفسير العلمي الموثق.
ولا أدل على ذلك من وقفاته التاريخ/ آثارية مع الشواهد القبرية سواء في (عشم) أو في (السرين) أو فيما حولهما من مواقع آثارية تحيط بالقنفذة وما جاورها من مراكز ومناطق حضارية، والتعريف بها، وقراءة خطوطها ونقوشها، والمقارنة بين هذه الشواهد ومثيلاتها من حيث أنواع الخطوط والنقوش وأسماء كتّابها والعبارات الدعوية التي تمثلها هذه الشواهد القبرية. ومن كل ذلك يتبين للقارئ لتراث حسن الفقيه -رحمه الله- عمق الشيخ حسن العلمي والتاريخي والتراثي، وتجذره المعرفي فيما يبحث ويدرس ويؤلف، وبذلك فهو موسوعي الثقافة، تربوي التوجيه والإرادة، نحوي/ لغوي/ بحّاثة يستحق كل الإشادة والتقدير والدعاء له بالرحمة والمغفرة.
(3)
وأما كتابه الجديد (مدينة ضنكان الأثرية) فهو الجزء الثالث من سلسلته الشهيرة (مواقع أثرية في تهامة) والتي بدأها بكتابه (عشم)، وثنَّى بكتابه (السُّرّين) وثالثهما (ضنكان) وهي مدينة قديمة أثرية في تهامة عسير قريباً من مدينة (القحمة) واشتهرت قديماً بمنجم الذهب المعروف.
وقد اصطفاها الباحث المؤرخ حسن الفقيه -رحمه الله- لتكون إحدى محطاته البحثية فاجتهد في السفر إليها أكثر من مرة وتوثيق معطياتها التاريخية واللغوية، وتصوير شواهدها القبرية/ الأثرية ثم العودة للبحث والتقصي التاريخي والتحليل الشاهدي ليثبت ذلك كله في هذا الكتاب الجديد، ويصفه للقارئ بقوله: «ما هو إلا وصف لمشاهداتي ورصد لمطالعاتي لبعض ما عشت قريباً منه من المواقع الأثرية،... مستعيناً بما جمعته من معلومات عنها في رحلاتي المتعددة في هذا الوسط التهامي» ص13 – وهي المقولة التي أكد عليها في المقدمة العامة لكتبه السابقة – وكأنه يلمح إلى أن هذا المبحث ما هو إلا امتداد لمباحثه السابقة وجزء من سلسلته التاريخ أثرية!!
وعندما يتنامى البحث إلى آفاقه المعرفية يقف القارئ على منهجية تتبعية/ علمية يبدأها بالتحديد الجغرافي موقعاً وجغرافية، ثم يقف عند التأصيل اللغوي لهذا الموقع وبعده ينتقل للتاريخ ومقولات المؤرخين المعاصرين عن هذا الموقع ثم يعود إلى الحديث عن السكان والنشاط السكاني.
وخاتمة البحث تركز على المخلفات الآثارية والنقوش الشاهدية ويقدم حولها دراسة أدبية/ آثارية/ حضارية، وهي المركز الرئيس في هذا الكتاب وهذه الدراسة. وبما أنها كذلك فستقف مداخلتي عندها تحليلاً وتعريفاً.
(4)
وبما أن الأركيولوجيا/ الآثار هي المركزية البحثية في هذا الكتاب – نظراً لاهتمامات المؤلف -رحمه الله- فإنها تمثل الجزء الأهم والأخير من هذه الدراسة فعلى الصفحات 95-136 نجد المخلفات الأثرية، والنقوش الشاهدية، والدراسة التحليلية والصور التوثيقية، وكل هذه تأكيد على مشاهدات المؤلف وتصويره للموجودات الأركيولوجية وإخضاعها للتحليل والتفتيق.
فمن المخلفات الأثرية/ الأركيولوجية يشير المؤلف إلى المنازل وبقاياها من حجارة وجدران مهدَّمة، وأساساتها، وقد وصف ذلك كله بقوله: «منازل قليلة جداً، يرتفع جدران بعضها بقدر يقل عن متر، وتمتاز بالأحجار المهذبة الوجوه، المستقيمة الزوايا مما يدل على جهد في تسويتها وتهذيبها وبعض هذه المباني لم يبق منها إلا ما يمثل أساساتها وبعض هدميا تها القليلة جداً» ص95.
كما يشير إلى بقايا الأواني الفخارية والزجاجية التي اتخذت من الجهة الجنوبية الغربية للمدينة (ضنكان)، وفي هذا دلالة على تمركز المنازل والنشاط السكاني من تلك الجهة من المدينة، وتتأكد هذه الفرضيَّة بوجود آثار (الأرحاء الضخمة) في نفس الجهة الجنوبية الغربية بضنكان، وهي: الحجارة المعدة لسحق أوراق وأغصان الأشجار المستخدمة في دباغة الجلود. ذلك أنه اتضح أن نشاط السكان في هذه المدينة تركز في دباغة الجلود!! كما يقول ص79-80.
وفي هذا السياق يشير المؤلف إلى الأراضي الزراعية المتوزعة على الامتداد الشرقي لوادي أو شعيب ضنكان. ولكن المؤلف يؤكد عدم استغلالها في الزراعة واستغنوا عنها بمهنة رعي الإبل والأغنام التي تمثل عماد حياتهم المعيشية كما يقول المؤلف ص95.
ومن المخلفات الأثرية التي تحتضنها هذه المدينة التاريخية المقبرة التي تقع في الزاوية الشمالية الغربية قريباً من مجرى وادي ضنكان، ومساحتها 150×100 متر من الجنوب إلى الشمال ولا تزال معالمها واضحة وبعض النقوش الشاهدية موجودة ولكن يد العبث امتدت إليها فسرقت ونهبت بعضها وكسر أو تلف البعض الآخر، والبعض ما زال مدفوناً تحت الركام.
ومن هذه النقوش الشاهدية يورد المؤلف خمسة فقط يخضعها للتحليل والدرس والتعريف وهي كالتالي:
(1) نقش شاهد محمد بن عبدالرحمن.
(2) نقش شاهد عبدالله بن حميد.
(3) نقش شاهد حاتم بن أبي مريم.
(4) نقش شاهد أحمد بن خلد.
(5) نقش شاهد علي بن أحمد بن خلد.
ومن خلال هذه الدراسة والتحليل نصل إلى بعض الاستنتاجات المعرفية:
* أن هذه النقوش الشاهدية تمت كتابتها في نفس المدينة (ضنكان) ولم يتم نقلها من مكان آخر للصعوبة البالغة في ذلك.
* أن دلالات ورمزية الخطوط والنقوش والحروف تعود تاريخياً إلى منجزات أواسط القرن الثاني الهجري وأواسط القرن الثالث الهجري، وذلك من خلال خصائصها الخطية والجمالية مع خلوها من ذكر التواريخ وأسماء الكتّاب والنقّاشين.
* إن البلاطات المنقوش عليها الشواهد القبرية من صخور المنطقة ومن البيئة المحلية، ولم تستجلب من أماكن أخرى.
* إن العبارات الشاهدية ملتزمة بالبسملة، واسم صاحب القبر، والدعاء له بالرحمة والمغفرة وبعض آيات القرآن الكريم.
* إن كلمات النقوش الشاهدية تتراوح بين 17 و31 لفظة أو كلمة موزعة على أسطر تتراوح بين 5-12 سطراً وكلها بالخط الكوفي إلا واحداً بالخط النسخي!!
* وكل هذه الخمس الشواهد تخلو من جماليات النقش أو الزخرفة الجانبية من تشجير أو توريق وتكتفي بالنص الشاهدي!!
ولكن الملاحظة الجديرة بالتوقف عندها هو عدم التعريف بالشخص صاحب النقش الشاهدي على قبره، فلم نعرف مكانته الاجتماعية ولا شيئاً عن سيرته. ولعل هذا مطلب مستقبلي من الباحثين والدارسين فقد جهز لهم الشيخ -رحمه الله- المادة الأولية وعليهم استكمال البواقي وهي جد مهمة للبحث الأثري!!
ولعلي هنا أوصي وزارة السياحة وهياكلها المهتمة بالقطاع الأركيولوجي/ الآثاري، والجهات المسؤولة عن هذه المنطقة وجامعاتها وأقسامها المتخصصة في الآثار أن تولي هذه المدينة الأثرية عناية خاصة من حيث الحفر والتنقيب الأثري، والحفاظ على المعالم الأثرية من الأيدي العابثة بكل الطرق والوسائل الأمنية.
(5)
وقبل أن أختم هذه المداخلة المعرفية أود أن أوقف عند ثلاث مسائل مهمة في هذا الكتاب. وأولها المبحث العاشر والذي أعتبره من أهم المباحث الواردة في الكتاب وهو مبحث: اندثار ضنكان الذي أورده المؤلف -رحمه الله- في الصفحات 83-91. ففيه تتجلى علمية الباحث وعمقه المعرفي، والقدرة على التحليل وربط النتائج بالأسباب والخروج من الخلافات التاريخية إلى ما يشبه القناعة واليقين بعد المدارسة والمناقشة والتحليل.
فهو منذ البدء يقرر ما يلي: «نستطيع باطمئنان التقرير بأن مدينة ضنكان كانت حتى النصف الأول من القرن الرابع الهجري حية سكاناً ونشاطاً».
ولم يتشكل هذا التقرير ولا الاطمئنان إلا بعد الرجوع إلى المصادر والمراجع التي تثبت ذلك فهذا الهمداني، وابن عمر العذري، والإدريسي، والحمدي، والجزيري، وعمارة اليمني، والخزرجي، والزمزمي وغيرهم.
ثم يصل – بعد هذه الجولة الحوارية مع المؤلفين – إلى أنه يميل «إلى أن (ضنكان) كانت في القرن الخامس الهجري تنحدر إلى الاندثار خاصة مع موت معدنها الذهبي!!
ويقف أخيراً عند الأسباب التي أدت إلى اندثار المدينة وهجرة أهلها وتحولها إلى أثر بعد عين ومنها:
- تعرضها لموجة من الأوبئة الفتاكة.
- تعرضها للحملات الحربية والغزو.
- تعرضها لمجاعة جائحة من مثل تلك التي تعرضت لها بلاد مجاورة.
- كساد تجارة الذهب والمعدن المشهور فيها.
- انصراف الحجاج والتجار عن الطريق المار بها إلى غيره من الطرق والمواصلات.
والمسألة الثانية التي تستوقفني في هذا الكتاب هي ثنائية المتن والهامش!! والتي تدل على ثقافة الباحث وعمقه التاريخي، ومرجعياته التي بنى عليها كثير من آرائه التاريخية والجغرافية واللغوية والأركيولوجية.
فأما (المتن) فهو المركزية والزبدة والأيقونة المعرفية التي اقتنع بها المؤلف وتوصل إليها. وأما (الهامش) فهو الذي يهمني أن أقف عليه وعنده متأملاً تلك القدرة البحثية والتأليفية لشيخنا -رحمه الله- والاستقصاء المتعدد المناحي. فنجد في الهوامش المصادر والمراجع التي أفادته في توثيق مسألة ما والتحقق منها تأييداً أو تفسيراً.
ونجد فيها التعاريف بالشخصيات والأعلام والمواقع والأماكن والجبال والوديان وغيرها. ونجد فيها استكمالاً أو تبريراً أو تعليقاً لما لم يستوعبه (المتن) من قضايا ثانوية.
ونجد فيها - أخيراً - مزيداً من الأفكار والأطروحات المرتبطة بإحدى مسائل ومحاور البحث ولم يجد لها مكاناً في (المتن) فيلجأ (للهامش) فهو مكان التوسع والأفكار الجديدة.
وهو في كل ذلك يحول (الهامش) إلى متن آخر – ولا يقل أهمية عن المتن/ المركز، ولابد للقارئ والمستفيد أن يتعامل مع (الهوامش) على أنها (متون) إضافية وفيها مما يقوي البحث ما يجعلها جديرة بالتواصل والتثاقف الواعي.
وأما المسألة الثالثة فهي تلك الصور التوثيقية التي أوردها المؤلف -رحمه الله- في الصفحات 111-136، وهذه تشكل بنية معرفية مستقلة/ ومنسجمة مع ما جاء في (المتن) و(الهوامش) ومن خلالها يتعرف القارئ على النقوش الشاهدية محل الدراسة والتحليل ويقف على الخرائط والمواقع والمناظر الطبيعية المحيطة بالمكان المدروس. وكل ذلك مما يضيف بعد المشاهدة والتصورات الذهنية العيانية لتستقر المعلومة وترسخ بصورها الواقعية.
وختاماً:
فقد كنا في سياحة معرفية/ آثارية/ تاريخية جغرافية مع منجز توثيقي مهم لمؤلف غادر حياتنا الدنيا قبل (ست) سنوات تقريباً -رحمه الله- لكن أبناءه البررة أبوا إلا أن يستعيدوه علماً ومعرفة وذكرى ودعاء له بالمغفرة والرحمة، ويعيدوه للمشهد الثقافي الذي لم.. ولن.. ينساه إن شاء الله.
رحم الله المؤلف.. وشكر الله لأخي الدكتور علي حسن الفقيه وإخوانه الأعزاء..
والحمد لله رب العالمين.
** **
- د. يوسف حسن العارف