د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لعله لا يتذكر - وقت أن جمعهما معهد الإدارة - حين هنَّأه صاحبكم بتعيينه نائبًا للمدير العام لشؤون البحوث والمعلومات - أن فرّت من صدره تنهيدة سريعة وقال هامسًا: «ليت العمرَ يتأنى قليلًا».
** وعى إشارته؛ فإنما هي طموحٌ ذو لونٍ ومذاقٍ وحسٍ مختلف؛ فقد حققَ شيئًا وشاء أشياءَ، وتجاوز مرحلةً خالها الأضال حين عمل معلمَ تربية فنية في «سكاكا» خلال فترةٍ مبكرةٍ من حياته، وأيقن أنْ ثمَّ مراحلَ، وتمنى أن تُرهصَ لارتحالات.
** لم يشأْ حينها أن يُذكِّر صديقه «أبا راكان» بدعاءٍ منسوبٍ إلى الشهير الجهير «ابن سينا» - الذي عاش سبعة وخمسين عامًا فقط - بأن يهبه الله حياةً عريضة لا طويلة؛ فالرقم ليس قيمة، ورب عامٍ يعدل أعوامًا، وشابٍ يبزُّ شيوخًا، وما نزال نستعيد «عشرينيين» استقرُّوا، وننسى «تسعينيين» مرُّوا؛ فالأثرُ قرينُ المؤثِّر، والحياةُ لا تقاسُ بتوقيتٍ وإن لم تأذنْ بتفويت.
** سابق فسبق، وعاش الحياتين: العريضة والطويلة، أمدَّ الله في عمره، وصار المعلم الصغير وزيرًا كبيرًا بتدرجٍ مهنيٍ ذي إيقاعٍ وموقع وتوقع؛ فلم يكتفِ بشهادةٍ بل أردفها بشهادات، ولم يتكئْ على تخصصٍ فنوَّعه باتجاهات، وجرى الإطلاق والانطلاق مرتقيًا درجات الذرى عبر بيت الخبرة الإدارية الشامخ (معهد الإدارة)، فأعاد فيه، وابتعث منه، وعاد إليه محاضرًا وباحثًا ومستشارًا، وانتقل بعده إلى قبة الشورى عضوًا فمسؤولًا، وتتوج دربه العمليُّ الممتد خمسة وأربعين عامًا بتعيينه وزيرًا للاتصالات وتقنية المعلومات، وكذا جاءت سيرته مجملةً في «خلاصة الأيام».
** كافح كي يكون فكان، وتجاوزت به مكونات شخصيته حدود عالمه الصغير، وكنَّا - في اجتماعات العمل بالمعهد - نعرف أنه يفكر خارج الصندوق، وكنا نستمتع بتعليقاته المباشرة واللاذعة مقرونةً بهدوء صوته ولطف إطلالته وتكثيف بذله وألق مبادراته.
** كرَّت الأعوام، وتبدَّلت المناصب، ولم يتغير، وظلت عفويتُه التي لم تَستبدل بأدوات الرسم بشتَ الوزير؛ فلم ينسَ كفاح والده، وكدَّ والدته، وطفولةً عايشت الشظف، وفتوةً نأت عن الترف، وسرد في سيرته الصادرة قريبًا عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي (رمضان 1442هـ) معطيات العُسر قبل اليسر، ومحطات العناء فوق الرخاء.
** جاءت «خلاصة الأيام» متفقةً مع عنوانها؛ فأصَّلت وما فصّلت، وأشارت فأنارت، وأثْرت ولم تُثِرْ، وأنبأت ألاَّ حلم يستحيل تشييئُه إذا «وجد» الإنسان «في نفسه ومن نفسه ما يعينه على أداء مهامه»، وهذه عبارةٌ خطَّها صاحبكم لصاحبه عام 1417هـ حين عُيِّن «أبو راكان» في المرتبة الخامسة عشرة بالمعهد، وقد جدَّ ووجد وأوجد.
** تستحق مسيرة معالي الدكتور «فهد بن معتاد بن شفق بن مفلح الحمد» أن تُروى فهي رواءٌ، وأن تَستأثر فهي ثراءٌ، وأن تُعقد لها ندوات لتعريف الشباب بقيم السعي والوعي وتحديد المسار ومعنى الإصرار ولذة الوصول.
** توثقت علاقة صاحبكم بأبي راكان بعد أن غادر كلَّ الكراسي تجذيرًا لشعورٍ مورقٍ من أيام «معهد الإدارة» عكس الإلفةَ الأقوى والأنقى، حين لا مصلحة غير وجه الصداقة الأبقى، وهذه - لعمر الله - أدومُ وأرقى.
** العمرُ ومضة.