ما إن ينثر الصّباح نورهُ في الأُفق، فتنفض القرية عَنْها أنفاس المَساء، التي لا تزال تسري بين دروبَها الضّيقة، حتّى تنبعث رياح رخية، تتهادى من الحُقولِ القريبة؛ مُعلِنة تشوّقها لزوارها الجُدد من أبناءِ الكدّ.
تتناثر قطعان الماشية في فوضى فوقَ الجِسرِ، ومن خلفها العِصيان تلهب ظهر المُتكاسِل منها، تتردد أنشودة الشُّروق في ابتهاجٍ فوقَ الشِّفاهِ، تُجيب تحية الصّباح المُرتعش، اعترف بأنّ عشرات القصص داهمت عقلي القاصِر، تراني أيمّم وجهي شطرَ المَشرِقِ المتسع، تَدبّ النّشوة في قلبي الهَامِد، أُراقِب في سَكينةٍ خيوطَ الدُّخان الفتية، تُداعِب قُبة السّماء الصَّافية تحتضن النّهارَ الوليد، بالتّأكيد هي بعيدة جدا، ولكنّ كثرتها أظهرتها قريبة، تقتحم الحقول في عنفوانٍ، قصّ علينا «الحاج نَوّار» خبرها: هي سوداء مثل هِباب كوانين النّار، يعتمد في إخراجها على مداخن عملاقة تمتد شاهقة، تنفثها بعيدًا عن مبنى «الفابريكا»، تُحرَق فيها فضلات القصب ومخلّفاته؛ لغلي عصيره وتحويله إلى سُكر. ما زلت أذكر يومًا اغتمّت فيه قريتنا، نزفت العُيونُ من ينابيعِ الفاجعة، طَاَرَ الخَبر؛ إنّ «رافع» أحد شُبانها، سَقطَ صَرِيعا أثناء نوبة عمله في صهاريجِ العَصيرِ المغلي، أتوا ببقايا جثمانه تَحتَ ضبابِ الفجر الخفيف ليدفنوه، يتَذكّر «مخيمر» الخفير لحظتها، يحكي والشّجن يَجِدُّ في قلبهِ، ينظر بوجهٍ باسر، وأعصاب مهتاجة، وصوته يختنق: إنّ العَصير السّاخن أذابَ لحمه، ولم يبقه إلا عِظاما، في إحدى الأماسي الصَّيفية البهيجة، هَبَطَ «الأفندي» علينا، عائِدا في إجازةٍ قصيرة، أمضى قرابة عقدين من الزَّمانِ، يتولى مهام استلام عربات القصب ووزنها، أقسَمَ بقبرِ أمه، إنّ «الفابريكا» مَرتَعا لعُتاة العفاريت، تتلاعب في ظلامِ ليلها الحَالِك بكُلِّ شيء، وفي هدأةِ اللّيلِ، وتحت جَنينِ القمر السّاجي، أخرَجَ ساعته «أم كاتينة» من جيبِ سترته الكاكي، هزّها في خُيلاءٍ، وعيناه تلَتمعُ، أسرّ لجلسائهِ في نَبرةِ الواثق كعادتهِ: الآن أوان الوردية الثالثة، وأشارَ بيدهِ مُنصتا، تلِكَ صَافِرة قطار القصب يدخل «الفابريكا»، لا يمكن أن يُخلِف موعده، استدارَ الزّمان، بعد إذ طوى الماضي في جوفهِ، ذهبت للدراسةِ في البَندر، هناك وعلى مَقربةٍ من «الفابريكا» مدرستنا، انتصبت مداخنها، راعني شموخها، أخافني ما تَقذِف من أدخنةٍ ثِقال، أُرسلت الطّرف دونَ كللٍ في الجوِّ مأخوذًا بها، تلتمع في عينيّ حيرة الغريب، ومن آنٍ لآخر التمس الحِيلة؛ وفي غفلةٍ من الرُّقباءِ، اعتلي السَّطح، اتتبّع الأعمدة السُّود حين تلوّيها، على استحياءٍ أُلقي بخبيئةِ صَدري لزملاءِ الصَّف، فلا أجدلاَّي معلق «بالفابريكا» ونظرة شَذراء ترميني بالبلاهةِ والجمود.
اُودِّعها في طريقِ عودتي، وما احسَب أنّه الوَداع الأخير، مُنذ أيامٍ، بَلغَ مني الوَجد مَبلَغه، خطرت ببالي أيّامها الخوالي، اشتَبَكَ بصري بالأفقِ، اشتباكَ السَّيف بالسَّيفِ، لكنّه ارتدّ خَاسِئا وهو حَسير، تلاشت أدخنة «الفابريكا» هَمدت مداخنها، وتوقّفت صَافرة قطارها، كما تَوقّفت الحَياة عن مُتَعِها..
** **
- محمد فيض خالد