تَزخَرُ العربيَّةُ بكثيرٍ مِن الحصائدِ التي لم تُنَلْ أو تُوفَ حقَّ الإيفاء؛ لسَببٍ من الأسباب، ومنها أسلوب التَّعجُّبِ بمفردة «الله» بصوره الثَّلاث، عنَّ لنا أن نَـمُدَّ إليها مِنجَلَنا الصَّدِئَ؛ علَّه يَتحصَّدُ من ثِمارها اليانعةِ ما يتفكَّهُ بها شِراهُ العربيَّة، ويتلذَّذُ بمذاقها عُشَّاقُ اللُّغةِ.
المسألة الأُولى: مفهومُه
يُعرَّفُ التَّعجُبُ في اللُّغة بأنَّه: «شعورٌ داخليٌّ تنفعلُ به النَّفسُ حين تستعظم أمرًا نادرًا، أو لا مثيلَ له، مجهولُ الحقيقة، أو خفيُّ السَّبب»(1). فهو التأثُّرُ الحاصِل للنَّفسِ عندَ الاطِّلاع على أمر خارجٍ عن المعهود، والتَّعبيرُ عن هذا التَّأثُّر بصِيغةٍ من صِيَغَ التَّعجُّبِ المعروفةِ في النَّحوِ العربيّ، هو المعنى الاصطلاحيّ له.
أمَّا مفهومُ الأسلوب الذي بين أيدينا فيمكنُنا حدُّه بأنَّه: (التَّعبيرُ عمَّا يُثيرُ انفعالًا، بكلمةِ «الله» بالرَّفع أفراداً أو تَكرارًا).
فقولنا: (التَّعبيرُ ) جنسٌ يشملُ جميعَ أنواع التَّعبير. وقولنا: (عمَّا يُثيرُ انفعالًا) قيدٌ يَخرُجُ به التَّعبيرُ تعبُّدًا كالذي يلهجُ به بعضُ الطَّوائفِ في أذكارهم وأورادهم، فليس ذلكَ مِن دائرةِ بحثنا وعِنايتنا.
وقولنا: (بكلمة الله) بيانٌ لنوع التَّعجُّب، فيخرجُ به أنواعُه الأخرى، القياسيَّة كصيغتَي: ما أفعلَهُ! وأفعِلْ به! والسَّماعيَّة، نحو: سبحانَ الله! ويا لَجمالِ المدينةِ! وغير ذلك من الصِّيغ المعروفة.
وقولنا: (بالرَّفع) بيانٌ لوظيفته الإعرابيَّة، فلا يكون بالنَّصب، نحو: اللهَ اللهَ في اليتامى، لأنَّه منصوبٌ على التَّحذير، بفعل محذوفٍ والتَّقدير: خافوا الله، أو اتَّقوا الله، أو اخشوا الله. أو نحو ذلك. ولا يكون بالجرِّ، نحو: اللهِ نجحَ الكسولُ! لأنَّه مجرورٌ بإضمارِ حرفِ القسمِ على مذهب الكوفيِّينَ.
وقولنا: (أفرادا أو تَكرارًا) قيدٌ واصفٌ لأنماطِ هذا النَّوعِ من التَّعجُّب، وحاصرٌ له.
المسألة الثَّانية: صورُه
تقتصرُ صُورُ هذا الأسلوب على ثلاثةِ أشكالٍ:
1 . المفرَد: نحو: اللهُ!
2 . الثُّنائيّ: نحو: اللهُ اللهُ!
3 . الثُّلاثيّ: نحو: الله الله الله!
ولا مزيدَ على ذلك؛ لأنَّ الزِّيادة أمر مُبالَغٌ فيه، وشَينٌ غيرُ مُستساغٍ عند الأُدباءِ؛ إذ التَّوكيدُ أكثر مِن ثلاثِ مرَّاتٍ إطنابٌ لفظيٌّ خارجٌ عَن مألوفِ كلام العربِ الفصيح. قال أبو حيَّان (ت 745 هـ): «التَّوكيدُ اللَّفظيّ قد يكونُ بتكرار اللَّفظ مرَّتينِ، وهو الأكثرُ، وقد تكون بثلاث مرَّاتٍ» (2). ولا يصحُّ أن يزيد التَّكرارُ على أكثر من ذلك (3).
المسألة الثَّالثة: حكمُه
تبيَّن لنا من خلال البحثِ أنَّ قولَ جُمهورِ العُلماءِ في هذا الأسلوب من التَّعجُّبِ هو الجواز، قال عبد اللَّطيف الكرماني المعروف بابن مَلِكٍ (ت 801 هـ) مُعلِّقًا على الحديثِ الذي رواه الإمام مُسلم عن «أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأرض: اللهُ، اللهُ»(4)، قال: «بل الوجهُ أن يقال إنَّهُ كنايةٌ عن أن لا يقع إنكارٌ قلبيٌّ على مُنكَرٍ أصلًا؛ لأنَّ مَن رأى شيئًا وأنكرَهُ، يقولُ في العادة مُتعجِّبًا مِن تحقُّقه: الله الله! فالمعنى لا تقوم السَّاعةُ حتى لا يبقى مَن يُنكرُ ما خالفَ الشَّرع» (5).
وقال عالم محمَّد بن حمزة المعروف بحاجي أمير زاده الآيديني العُثمانيّ (ت بعد 1121هـ): «اعلَم أنَّهُ شاعَ بين النَّاسِ واشتُهِر أنَّ مَن قال عندَ التعجُّبِ: الله الله! كفَر، ولا يخفى أنَّهُ لا وجهَ له؛ إذ ليس فيه ما يُوجِب الكُفرَ من الاستهتار وغيرها، بل لا يُرتابُ في جوازه، قال الشَّيخ محيي الدِّين النَّووي - رحمهُ اللهُ - في الأذكار: بابُ جواز التَّعجُّبِ بلفظِ التَّسبيح والتَّهليل ونحوهما، ثم أورد عدَّة أحاديثَ صحيحةٍ في إثبات ذلك المطلوبِ صراحةً». ثم عقَّب على قول ابن مَلِكٍ قائلًا: «فهذا كلامٌ يدلُّ على أنَّ هذا القولَ عند التَّعجُّب عادةٌ مُستمِرَّةٌ بلا نكيرٍ ولا تَعقُّبٍ» (6).
وأفتى الدُّكتور سُليمان بن عبد العزيز العُيوني بأنَّ «قولَ: (الله الله) عند الإعجابِ أو التَّأييدِ، صَحيحٌ، أي: اللهُ يحفظك الله يحفظك، ومثلُ هذا الحذفِ كثيرٌ» (7).
ولم نجدْ على حدِّ اطِّلاعنا أحدًا أنكرَ هذا الأسلوب قديمًا وحديثًا غيرَ الدُّكتور عبد العزيز الرَّاجحي مِن المعاصرينَ، الذي قال مُجيبًا عن حُكمِ قولِ: الله الله عند التَّعجُّب: «ينبغي أن يُضيف إليه: الله أكبر! الله أكبر! والنَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الله أكبر إنَّها السُّنن، قلتُم والذي نفسي بيده) فإذا تعجَّبَ مِن شيءٍ كان يقول: الله أكبر، أو يقول: سُبحان الله، فيأتي بجملةٍ مُفيدة، فلا يصلح الله، وإنَّما تقولُ: اللهُ أكبرُ، فهذا فيه تعظيمٌ لله وأنَّه أكبرُ مِن كلِّ شيء» (8).
والذي نطمئنُّ إليه بناءً على ما سلَفَ هو أنَّهُ أسلوب فصيحٌ وصحيحٌ؛ لما يأتي:
1 . لأنَّه تسندُه النُّصوصُ الصَّحيحةُ من الأحاديثِ والآثارِ، كحديث مُسلم المذكور آنفًا، والحديث الذي رَواه الجصَّاصُ (ت 370 هـ) بسنَدِه «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى شَيْئًا أَعْجَبَهُ فَقَالَ: اللَّهَ اللَّهَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ» (9).
2 . ولأنَّه يحظى برأي جمهور العُلماءِ قديمًا وحديثًا ممَّن وقفنا على آرائهم.
3 . ولأنَّه جارٍ على سُننَ العربِ في كلامها، بحذفِ ما تقوم القرينةُ عليه، ويتَّضحُ المعنى معه، في غير إبهامٍ ولا غُموضٍ؛ اختصارًا وإيجازًا. والله أعلم.
المسألة الرَّابعة: توجيهُه
إن كان قد ثبتَت فصاحةُ أو صِحَّةُ هذا الأسلوب، فما تخريجُه على كلامِ العربِ؟
نقول: يمكننا أن نوجِّهه على النَّحو الآتي:
أوَّلًا: المفرد (الله): فيه وجهان: أحدهما: أن يكون «الله» مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ يُقدَّرُ بما يُناسبُ المقام. ونرى أنَّ الأفضلَ في تقديره هو أن يكونَ المقدَّرُ (أكبر)، أي: الله أكبر! لثلاثة أسباب:
1 . لورود هذه الصِّيغة في الأحاديث الصَّحيحةِ في سياقاتٍ تدلُّ على التَّعجُّب، كما في حديث أنسٍ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ! (10)، ومنه حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ الذي قَالَ: «خَرَجَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَنُوطُونَ بِسِلَاحِهِمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُ أَكْبَرُ! هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى (قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (138) إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (11).
2 . لكونها من أدعية السُّنَّة النَّبويَّة التي يُسنُّ قولها عند التَّعجُّب والأمرِ السَّارِّ، فقد بوَّب البخاريُّ في صحيحه بابًا بعنوان: «باب التَّكبير والتَّسبيح عند التَّعجُّب» (12).
3 . لشُيوعِ استعمالها، وتداولِ قولها بين النَّاسِ عند مواضع التَّعجُّبِ والانفعالِ.
والآخَرُ: أن يكونَ فاعلًا بفعل محذوفٍ يُقدَّر بما هو مناسبٌ، نحو: حفظك الله! أو يحفظك الله! أو أعزَّك الله! أو أكرمكَ الله! وما شابه ذلك. ونرى أنَّه لو قُدِّرَ فعله بـ (بارك، أو يبارك)، أي: باركك الله! أو يباركك الله! لكان أفضل؛ لأنَّ ممَّا يُشرَعُ للمرء قولُه عند رؤيةِ ما يُعجِبُ أن يدعوَ له بالبركةِ، لحديثه - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ أو مِنْ نَفْسِهِ أو مِنْ مَالِهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيُبَرِّكْهُ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ» (13). فيكون في إيثار هذا الفعل استنانٌ بخيرِ الأنام، وطِباقٌ للمقام، ووِفاقٌ للمرام.
ثانيًا: الثُّنائيّ (الله الله): أمَّا الثُّنائيُّ فيمكن تخريجه على وجهينِ:
الأول: أن يكون إعرابُه مثلَ إعرابه مفردًا، فيكون تقدير (الله الله): الله أكبر الله أكبر! أو يباركك الله يباركك الله! ويكون الثَّاني منهما توكيدًا لفظيًّا للأوَّل.
الثَّاني: أن يُعربَا مبتدأً وخبرًا، على نحو قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (10) سورة الواقعة في أحد وجوهه، وبمثل قول الشَّاعر: أنا أبو النَّجم وشِعري شِعري، وهذا هو المشهور عند النَّحاة (14)، «وهو يُقالُ عندَ تَعظيمِ الأمرِ وتَفخيمهِ» (15)، ويكون في توجيهه ثلاثة تأويلات:
1 . لشهرة المبتدأ بما هو عليه، فلا حاجةَ إلى الخبر عنه.
2 . للإشارة إلى أنَّ في المبتدأ ما لا يحيط العِلمُ به، ولا يُخبِر عنه ولا يُعرَفُ منه إلا المبتدأ نفسه، فإنَّه فوق أن يحيطَ به علمُ البشر. وهو كما يقول قائل لغيره: أخبرني عن الـمَلِك؟ فيقول: لا أعرفُ من الـمَلِكِ إلا أنَّه مَلِكٌ (16).
3 . أن يكون مُتعلّق «الله» مختلفًا، كأن يكون التَّقديرُ: الله العَلَم على الذَّات المقدَّسة الله المعبودُ لا غيرُه! ويعضُده ما نقله الكرماني المعروف بابن مَلِكٍ فيه بقوله: «وقيل: الأوَّلُ مبتدأٌ والثَّاني خبرُه، معناه: الله معبودٌ لا غيره» (17).
ثالثًا: الثُّلاثيّ (الله الله الله): يُعرَبُ بالأوجه التي يُعرَبُ بها مُفردًا، وتكون مُكرَّراتُه توكيداتٍ لفظيَّة. واللهُ - جلَّ وعزَّ - أعلم.
... ... ... ...
الهوامش:
(1) انظر: النَّحو الوافي: 3 / 341.
(2) ارتشاف الضَّرَب: 4 / 1958.
( 3) انظر: حاشيَّة الصَّبَّان على شرح الأُشموني: 3 / 66، وشرح التَّصريح: 2 / 141، والنَّحو الوافي: 3 / 526.
(4) صحيح مسلم: 1 / 131، رقم الحديث (148).
(5) مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار: 1 / 223.
(6) رسالة غير مسمَّاة ضمن مجموع مخطوط تحت الرَّقم: (1176)، بمكتبة قيسري راشد أفندي في تركيَّا.
(7) تغريدةٌ على حساب المفتي اللُّغويّ بتوِتر بتاريخ: 23 / 5 / 2015م.
(8) شرح تطهير الاعتقاد للصنعانيّ: 7 / 19.
(9) أحكام القرآن: 3 / 650.
(10) انظر: صحيح البخاري: 1 / 104، رقم الحديث (371).
(11) مُسند الإمام أحمد: 36 / 231، رقم الحديث (21900).
(12) صحيح البخاري: 8 / 60.
(13) مُسند الإمام أحمد: 24 / 466، رقم الحديث (15700).
(14) انظر: تفسير الرَّازي: 29 / 389.
(15) الدُّرُّ المصون: 10 / 195.
(16) انظر: تفسير الرَّازي: 29 / 389 - 390.
(17) مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار: 1 / 223
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق - كركوك