في إحدى رحلاتي البرية استوقفتني صخرة جاثمة بكبرياء وعزة نفس أراها مستحقة، وكأنها ترقب من قريب ومن بعيد متأملة بأحداث الكون، الصخرة تقع في ديار بني عبس والتي تسمى الآن عيون الجواء قرب مركز الغاف في منطقة القصيم تلك الصخرة التي تتوسد خليطا من الكثبان الرملية والصخرية حيث أجريت معها لقاء خيالياً عن تاريخها وعن الأشخاص الذين مروا بها والأحداث التي شهدتها فحدثتني قائلة: مر علي كل ما تتخيله من أحوال البشر فشهدت الخطوب الجسيمة والأحداث المهولة فاستظل بي الراعي الذي فقد نوقه، واختبأ تحتي الهارب المظلوم، وتوكأ عليّ الرجل المجروح، ونام عندي البائس الجوعان، وبكت عندي المرأة الحزينة الباكية، ومر بي الشاعر المتلهف، فقلت للصخرة: كيف رأيت حال الأجيال التي مرت بك؟ قالت: خليط بين السعادة والشقاء وحتى السعيد لم يلبث زمنا حتى استلبت سعادته المآسي فأصيب بمرض أو فقدان حبيب أو فراق عشيق، فحلاوة الدنيا تعكرها المواجع، سواء كانت جسدية أو المعنوية،فقلت لها حدثيني عن عنترة بن شداد وماذا دار بينه وبين عبلة فقالت: تلك قصة أخرى حيث أن عنترة شاب أمه أميرة حبشية وقعت في الأسر سابقا ولم يعترف والد عنترة العربي بعنترة بسبب نسبه حتى أثبت بسالته بفروسيته في القتال والنبل في الأخلاق، عشق ابنة عم عبلة التي كانت حديث القوم بالجمال والأناقة واللطف وحسن المزاج، رفض عمه تزويجه بسبب نسبه لأمه، إنها العنصرية البغيضة التي لم تزل تنخر في جسد البشرية، ومال قلب عنترة وروحه إلى عبلة ميلا عظيما، فقلت: للصخرة وما نوع الحب الذي قالت حب أفلاطوني نبيل حب شهامة وأدب كانا يلتقيان عندي وأستمع ما يقوله عنترة لها من ألم وتوجُّد وقصائد ذاع صيتها في الآفاق حتى يومنا هذا،فقلت للصخرة:كيف كان يلقي عنترة قصائده؟
قالت: قال إلقاء ليس كإلقائكم الآن. حيث كان يتكئ عليّ، وأحيانا يستظل بي، ويتغنى بشعره بصوت شجي تسمع صداه من بعيد، تخر له عبلة خضوعا وتلهفا واستسلاما لجمال حديثه. وروعة حبكه وحسن وصفه لشوقه واشتياقه، فقلت للصخرة: كيف كانت تعابير وجه المعشوقة عبلة وهي تسمع قصائده؟ قالت: مزيج من الطرب والشوق واللوعان وألم البعد والتأمل في حالهما،مشاعر عشق ووله يصعب عليك تدوينها ويكفي أن قصتهما قد ملأت فضاء التاريخ على مدى القرون الماضية؛ قد ملأته حديثا وتقمصا وبكاء وحبكا يأسر القلوب،فقلت أنشديني أيتها الصخرة مما قال عنترة من عذب قوله فقالت خذ:
يَا دَارَ عَبْلـةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمِى
وَعِمِّى صَبَاحاً دَارَ عبْلةَ واسلَمِى
ولقد ذكرتك والرماح نواهلُ
منى وبيض الهند تقطر من دمى
وودت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
وقال:
يا طائِراً قَد باتَ يَندُبُ إِلفَهُ
وَيَنوحُ وَهوَ مُوَلَّهٌ حَيرانُ
لو كُنتَ مِثلي ما لَبِستَ مُلَوَّن
حُسناً وَلا مالَت بِكَ الأَغصانُ
عِرني جَناحَكَ وَاِستَعِر دَمعي الَّذي
أَفنى وَلا يَفنى لَهُ جَرَيانُ
حَتّى أَطيرَ مُسائِلاً عَن عَبلَةٍ
إِن كانَ يُمكِنُ مِثلِيَ الطَيَرانُ
وقال:
يا طائِرَ البانِ قَد هَيَّجتَ أَشجاني
وَزِدتَني طَرَباً يا طائِرَ البانِ
إِن كُنتَ تَندُبُ إِلفاً قَد فُجِعتَ بِهِ
فَقَد شَجاكَ الَّذي بِالبَينِ أَشجاني
بعدها افترشت الأرض قرب الصخرة وكأن العشيقين ماثلان أمامي في هيام فريد فعجبت لعنترة كيف تكرست قصته في أذهان البشر حتى صار يضرب به المثل بالعشق والشجاعة، فلم تأت الشجاعة والفروسية صدفة بل جاءت نتاجا لتولعه الفريد بعبلة ولكي يثبت لعمه وابنته أنه جدير بتلك الجوهرة الملائكية في نظره، وحدثنا التاريخ عن تلك الشجاعة وكيف استطاع أن يجلب النوق اللواتي طلبها عمه بشروط معجزة لتكون مهرا لعبلة، واختلف الرواة حول زواجهما والأرجح أنه تزوج بها رغم وقوف أخيها عمرو إلى جانب أبيه ضد زواجهما بعد مماطلة منهكة.
** **
- صالح الربيعان