صدر مؤخّرًا عن دار السلام كتاب (منهاج الطالب إلى تحقيق كافية ابن الحاجب) لأحمد بن محمّد الرصّاص (ت ق9ه)، وأصل هذا الكتاب أطروحة علميّة حصل بها محقّق الكتاب الأستاذ الدكتور أحمد بن عبد الله السالم على درجة الدكتوراه عام 1407هـ، وعند تصفّحي هذا الكتاب وقفتُ على قضيتين أحببتُ أن أناقشَ فيهما مؤلّف الكتاب أحمد الرصّاص، وهاتان القضيتان هما:
الأولى: قال ابن الحاجب في الكافية: في أحوال فعلي: الشرط والجزاء، وإن كان الثاني فالوجهان، وقال الرّصاص شارحًا كلامه: «أي: وإن كان الثاني ماضيًا والأوّل مضارعًا نحو: إن أكرمتني أكرمك، ففي الثاني الوجهان: الجزم؛ لأنّه مضارع معرب، ويجوز الرفع، ولكنّه قليل»(1)
في النصّ السابق إشكال ظاهر، وهو واضحٌ في عبارة الشارح الرصّاص، حينما قال: إن كان الثاني ماضيًا، والأوّل مضارعًا، وصواب العبارة أن يقال: إن كان الأوّل ماضيًا (فعل الشرط)، والثاني مضارعًا نحو: إنْ أكرمتني أكرمْك، ففي الثاني (جواب الشرط) الوجهان: الجزم؛ لأنّه مضارع معرب، ويجوز الرفع، ولكنّه قليل، والدليل على صحّة هذا التصويب استشهاد الرصّاص ببيت زهير بن أبي سلمى الشهير:
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألة... يقول لا غائبٌ مالي ولا حرم(2)
والسؤال الذي يدور في ذهني، أهذا الخطأ وارد في مخطوطات الكتاب، ولم يتنبّه إليه النسّاخ أم أنّه من عمل بعض النسّاخ أم هو سهوٌ من محقّق الكتاب عند نسخ المخطوطات؟ كلّ هذه الفروض واردة ومحتملة.
الثانية: قال ابن الحاجب في الكافية: ولام الأمر المطلوب بها الفعل، وقال الرّصاص شارحًا كلام ابن الحاجب: «نحو قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } (7) سورة الطلاق، وهي لطلب الفعل من الفاعل المتكلم والغائب نحو (لأضرب أنا) و(ليضرب زيد)، ولا تدخل في المخاطب، فلا تقول: (لتضرب أنت)، وأمّا قراءة من قرأ {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} (يونس: 58) بالتاء فشاذّ، والقراءة الفصيحة بالياء»(3)
وقفتي هنا ستكون مع حكم الرصّاص على قراءة (فلتفرحوا) بأنّها قراءة شاذّة، ولستُ من المشتغلين بعلم القراءات، لكنّي لم أرتح إلى هذا الحكم، فشرعتُ في البحث عنها في بعض كتب القراءات المتاحة لي، فوجدت بعض العلماء يدرجون هذه القراءة ضمن القراءات السبع، وبعضهم يدرجها ضمن القراءات العشر، فممّن ذكرها في السبع أبو عمرو الداني (ت444هـ) إذ قال: اتّفقوا على الياء في قوله: (فليفرحوا) (يونس: 58) إلّا ما رواه عيسى بن سليم عن الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ (فلتفرحوا) بالتاء، لم يروه غيره(4)، وأيضًا سبط الخيّاط (ت541هـ) الذي قال عنها: «روى رويس والمطوعي عن الأعمش (فبذلك فلتفرحوا) بالتاء، وقرأه الباقون بالياء»(5)، وممّن ذكرها في القراءات العشر عبد الله بن عبد المؤمن (ت740هـ) إذ قال: «روى رويس: (فبذلك فلتفرحوا) بالتاء خطابًا»(6)، وذكرها أيضًا محمّد القلانسيّ الذي قال عنها: «روى رويس وزيد: (فبذلك فلتفرحوا) بالتاء»(7)، ووضعها ضمن القراءات العشر محمّد بن نبهان مصريّ الذي قال: «(فليفرحوا) أبدل ياء الغيبة تاء خطاب رويس (فلتفرحوا)»(8). يلحظ من النقولات السابقة أن قراءة (فلتفرحوا) صنّفت ضمن القراءات السبع تارة، وضمن القراءات العشر تارة أخرى، وإن كانت هذه القراءة ليست قراءة الجمهور المتواترة، بل منسوبة إلى واحد من القرّاء السبعة، ولكنّها ليست أيضًا بقراءة شاذّة؛ لأنّها ليست زائدة عن القراءات السبع على حدّ رأي ابن مجاهد في مفهوم القراءة الشاذّة(9).
ويذكر المفسّرون ذوو الاتّجاه اللغويّ هذه القراءة موجّهين إيّاها توجيهًا نحويًا، ومنهم الفرّاء (ت207هـ) الذي قال: «قد ذُكِرَ عن زيد بن ثابت أنّه قرأ (فبذلك فلتفرحوا) أي: يا أصحاب محمّد بالتاء»(10)، وابن خالويه (ت370هـ) الذي قال: «واحتُجّ بأنّه قد قرئ (فلتفرحوا) بالتاء، وهو ضعيف في العربيّة؛ لأنّ العرب لم تستعمل الأمر باللام للحاضر إلّا فيما لم يسمّ فاعله كقولهم: لتُعنَ بحاجتي»(11)، ويخالف الزمخشريّ (ت538هـ) ابن خالويه في حكمه على ضعف هذه القراءة من حيث العربيّة بقوله: «وقرئ (فلتفرحوا) بالتاء، وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-فيما روي، وعنه (لتأخذوا مضاجعكم) قالها في بعض الغزوات»(12)، يرى الزمخشريّ أنّ هذه القراءة قويّة من حيث القياس، وعضد رأيه بأنها قراءة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وموافقة لأسلوبه -صلّى الله عليه وسلّم- في استعمال لام الأمر مع المضارع المبدوء بالتاء والمبنيّ للمعلوم. وقد ذكر أبو حيّان (ت745هـ) أنّه رُوِيَ عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- (فلتفرحوا) بالتاء على المخاطبة، وهي قراءة جماعة كبيرة من السلف، وقراءة الجمهور بالياء على أمر الغائب(13). يستنتج من رأي أبي حيّان أنها قراءة متواترة عن جمع كبير من السلف.
والوقفة الأخيرة مع قول الرصّاص: القراءة الفصيحة بالياء (فليفرحوا)، والسؤال هل المصطلح المقابل للقراءة الشاذّة هو القراءة الفصيحة؟ الذي استقرّ في علم القراءات أنّ المقابل للقراءة الشاذّة هي القراءة المتواترة، وهي «القراءات السبع التي اجتمعت فيها أركان صحّة القراءة، والتي لها قدسيّة خاصّة لا يجوز المساس بها»(14)، أو القراءة المشهورة «وهي الثلاث المعشّرة، وقد نصّ جمهور القرّاء على صحتها، وخالفهم آخرون في صحّة ثبوتها»(15)، ثمّ هل قراءة (فلتفرحوا) مخالفة لمعايير الفصاحة عند البلاغيّين؟ وبالرجوع إلى معايير فصاحة الكلام المركّب يتّضح أن قراءة (فلتفرحوا) خالية ممّا يخلّ في فصاحة التراكيب، وهي: ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد بنوعيه: اللفظيّ والمعنويّ، وعند بعضهم كثرة التكرار، وتتابع الإضافات(16).
وفي الختام فهذا اجتهادٌ منّي كان وراءه المناقشة العلميّة لمؤلّف الكتاب أحمد الرصّاص في هاتين القضيتين اللتين لاح لي بأنّهما تحتاجان إلى وقفة وتأمّل، وأرجو ممّن له رأيٌ مخالفٌ لما طُرِحَ أن يصحّح لي ما وقعت فيه من أوهام.
... ... ... ...
الحواشي:
(1) الرصّاص، أحمد بن محمّد: منهاج الطالب إلى تحقيق كافية ابن الحاجب، دراسة وتحقيق: أحمد بن عبد الله السالم، دار السلام للطباعة والنشر والترجمة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1441هـ/ 2020م، جـ2، ص667.
(2) انظر الرصاص، أحمد بن محمّد: منهاج الطالب إلى تحقيق كافية ابن الحاجب، جـ2، ص668.
(3) الرصّاص، أحمد بن محمّد: منهاج الطالب إلى تحقيق كافية ابن الحاجب، جـ2، 665.
(4) انظر الدانيّ، عثمان بن سعيد (ت444هـ): جامع البيان في القراءات السبع المشهورة، تحقيق: محمّد صدوق الجزائريّ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1433هـ/ 2012م، ص548.
(5) البغداديّ، سبط الخيّاط عبد الله بن عليّ (541هـ): المبهج في القراءات السبع، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1427هـ/ 2006م، جـ2، ص346.
(6) عبد المؤمن، عبد الله (740): الكنز في القراءات العشر، تحقيق: جمال الدين محمّد شرف، دار الصحابة للتراث، طنطا، مصر، 2002م، ص202.
(7) القلانسيّ، محمد بن الحسين بن بندار: كتاب الكفاية الكبرى في القراءات العشر، تعليق: جمال الدين محمد شرف، دار الصحابة للتراث، طنطا، مصر، 1427هـ/ 2006م، ص189.
(8) مصريّ، محمد بن نبهان بن حسين: البشرى في تيسير القراءات العشر الكبرى، الطبعة الأولى، 1434هـ/ 2013م، ص421.
(9) انظر ابن مجاهد: كتاب السبعة في القراءات، تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة، 1400هـ، ص22.
(10) الفرّاء، يحيى بن زياد: معاني القرآن، تحقيق: عماد الدين آل الدرويش، عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1432هـ/ 2011م، جـ1، ص350.
(11) ابن خالويه، الحسن بن أحمد: الحجّة في القراءات السبع، تحقيق: عبد العال سالم مكرم، مؤسّسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م، ص182.
(12) الزمخشريّ، محمود بن عمر: الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون التأويل في وجوه التأويل، علّق عليه: الشربيني شريدة، دار الحديث، القاهرة، مصر، 1433هـ/ 2012م، جـ2، ص326.
(13) انظر الأندلسيّ، محمد بن يوسف: تفسير البحر المحيط (745هـ)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، 1438هـ/ 2017م، جـ5، ص170.
(14) المحيمد، ياسين: أثر القراءات القرآنيّة في القواعد النحويّة، جائزة دبيّ الدوليّة للقرآن الكريم، دبيّ، الإمارات العربيّة المتّحدة، الطبعة الأولى، 2010م، ص17.
(15) المحيمد، ياسين: أثر القراءات القرآنيّة في القواعد النحويّة، ص17.
(16) انظر التفتازاني، سعد الدين: شرح السعد المسمّى مختصر المعاني في علوم البلاغة، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، اعتنى به: صالح الشمريّ، دار الظاهريّة للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1440هـ/ 2019م، جـ1، ص53-ص57.
** **
- د. فهد بن عبد الله الخلف