أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أملح وأمتع وأقوى تحقيق رأيته عن الأوامر في جميع كتب الأصول والمنطق هو ما كتبه الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابيه (الإحكام)، و(التقريب)؛ ففي كتاب (الإحكام) استوفى البدائه العقلية القاضية بحمل الأمر على الوجوب في الأصل، وفي التقريب استوفى البدائه اللغوية القاضية بحمل الأمر على الوجوب.. ومن الأصول الواضحة الناصعة ملاحظة الارتباط والانفكاك بين الحكم التكليفي والحكم الوضع؛ فقد ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه رحمهما الله تعالى إلى اشتراط الدعاء لصحة الصلاة في حالتي العلم بالحكم وذكره، وأما اشتراط علماء الظاهرية رحمهم الله الدعاء لصحة الصلاة مطلقاً في حالة العمد والنسيان والجهل: فلا وجه له إلا التعلق بأن النهي يقتضي الفساد، وهذه القاعدة إنما تصح إجمالاً، ولها تفصيلات يجب مراعاتها؛ فمن عمل أمراً محرماً في عبادته فلا تفسد عبادته إلا إذا قصد إفسادها بأن يرتكب النهي عمداً؛ فإن ارتكب النهي جهلاً أو نسياناً فجهله ونسيانه معفو عنه بموجب قواطع الإسلام إلا إن كان لجهله ونسيانه كفارة مشروعة كالسجود للسهو؛ فإن لم يسجد للسهو إذا ذكر قبل إنهاء الصلاة فقد تعمد إفساد عبادته فصلاته باطلة، وهو آثم لعصيانه الأمر بالسجود.. وأما تعمد مرتكب المنهي عنه في العبادة فهو آثم بذلك؛ لتعمده الفعل، وعبادته فاسدة؛ لأنه تعمد إفسادها.. وكل هذه بدائه عقلية لا تحتاج إلى طول نظر.. ومثل ذلك تحقيق ما إذا كانت قراءة القرآن في الركوع والسجود تبطل الصلاة أو لا تبطلها؟.. والجواب أنه إن كان جاهلاً النهي، أو كان يعلمه فنسي: فصلاته صحيحة، ولا إثم عليه.. ومن تعمد القراءة مع علمه بالنهي وذكره إياه فصلاته باطلة، وليس ذلك من باب اقتضاء النهي الفساد؛ وإنما ذلك بطريق الدليل، وهو أن من صلى معانداً الأمر الشرعي وهو عالم به ذاكر إياه: فقد تعمد عبادة الله بغير ما شرع، وكل ما هذا شأنه فهو باطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
قال أبو عبدالرحمن: ومن تلك الأصول الناصعة ملاحظة دلالة الصيغ (أوزان الكلمات) عند عرب السليقة؛ من أجل رفع الاختلاف المتكلف في رد صيغة ما لمادة لغوية معينة؛ بدعوى أن المادة لم تسمع عن العرب بتلك الصيغة كقول الإمام ثعلب رحمه الله تعالى: (كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس والذروح وهي دويبة حمراء منقطة بسواد تطير، وهي من ذوات السموم).
قال أبو عبدالرحمن: هذا ليس بشيء، والذي أحققه أن فعولاً وفعولاً صيغتان مختلفتا المعنى؛ ففعول بالضم صيغة مبالغة للدلالة على اسم المفعول؛ فيحول المعنى إلى هذه الصيغة بموجب مقاييس الصرف وإن لم يوجد سماع لذلك التحويل لتلك المادة بعينها؛ لأن اللفظ إذا سمع من العرب بمعناه فليس من الضروري سماع جميع صيغه؛ وإنما العبرة بصحة التحويل إلى الصيغ صرفاً، ولا سيما أن جميع الصيغ مسموعة من العرب، محددة المعاني ؛ فالسبوح القدوس بمعنى المبرأ من كل النقائص، المطهر من كل ما لا يليق به، وهو الله جل جلاله، وقد نقلت هذه الصفة إلى الاسمية للزومها؛ فأما فعول بفتح الفاء فهي صيغة للدلالة على اسم الفاعل على سبيل المبالغة؛ فلك أن تقول: (سلوم) للدلالة على اسم الفاعل (سالم)، وقد تكون صيغة فعول بفتح الفاء للدلالة على اسم المفعول.. وقد لقيت هذه الأصداء الماتعة من لغة العرب الفصيحة لا تزال باقية في بعض استعمال العامة في نجد؛ فعوام أهل نجد يسمون حب الحنظل بعد استخراجه بالضرب بالعصي وتنقيعه بالملح هبوداً بمعنى مهبوداً؛ لأنه لا يوجد إلا بمشقة من عمل الفاعلين؛ فسمي هذا الحب بصيغة اسم المفعول على سبيل المبالغة؛ لأن شرط وجوده أن يهبد، والمعنى أن الله (سبوح) بضم السين مسبح بأقوالنا ونياتنا لا بأفعالنا، لأن ربنا منزه لا يناله فعل منا جل جلاله، وهو كذلك وإن كفر بسبحانيته كل المخلوقات؛ وبهذا الملمح أرد قول بعض اللغويين: (إن صيغتي سبوح وقدوس لا يجوز فيهما الوجهان) بأن استحقاق الله سبحانه وتعالى التسبيح والتقديس جاز بصيغة فعول بالفتح؛ لأن المؤمنين يسبحونه؛ ولكون ربنا سبحانه وتعالى منزه ومقدس في نفسه جاز التعبير بصيغة فعول بالضم؛ فالتقى معنيا اسم الفاعل واسم المفعول على مرادين صحيحين.. هذا ما يتعلق باستعمال العرب، وأما صفة الله سبحانه وتعالى فهي على التوقيف، ولم أجد نصاً شرعياً غير وصف الله سبحانه وتعالى بالسبوح القدوس بالضم.
قال أبو عبدالرحمن: ومن الأصول الناصعة مراعاة الدلالة من المعهود والاقتران في السياق؛ فقد اختلف العلماء في المراد بالروح في قوله صلى الله عليه وسلم سبوح قدوس رب الملائكة والروح؛ فقيل: الروح ملك من الملائكة عليهم السلام، وقيل هو جبريل عليه السلام، وقيل خلق لا تراهم الملائكة كنسبة الملائكة إلينا؛ فكل هذا ما عدا جبريل عليه السلام احتمال مرسل لا اعتداد به في هذا السياق، بل الواجب المتعين، وهو حمل الروح على معهودنا الشرعي، وهو جبريل عليه السلام؛ بدلالة اقترانه مع الملائكة حتى يقوم برهان على أن المراد غيره.. وبعد نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر لا سيما في صلاته من قول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) فكلمة وبحمدك متعلقة بمحذوف مقدر والتقدير وبحمدك سبحتك.. وربما كانت الباء للسببية، والمعنى وبسبب أنك المحمود سبحك المسبحون.. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: (اللهم اغفر لي) إلا أنه ليس حجة لمن قال بجواز الدعاء في الركوع؛ لأن طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته المغفرة في ركوعه حكم شرعي خاص به، والبرهان على الخصوصية أمران: أولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أمته بما تقول في ركوعها فقال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فخصوص قول الرسول صلى الله عليه وسلم يصرف عموم فعله.. والبرهان الثاني على أن الدعاء في الركوع خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مخاطب بخطاب يخصه بإجماع المسلمين؛ وذلك في سورة النصر؛ فمنذ فتح الله له مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً امتثل أمر ربه الخاص به من التسبيح والاستغفار، وكان في ذلك إشعار بدنو أجله عليه الصلاة والسلام.. وههنا مسألة اختلف فيها العلماء، وتوقف فيها الإمام أحمد رحمه الله، وهي الحكم بالأفضلية بين السجود وبقية أجزاء الصلاة؛ فمن فضل السجود احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ومن فضل القنوت؛ وهو تطويل القيام، احتج بحديث جابر الصحيح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة طول القنوت)، ومن قال: هما سواء رأى الفضل متكافئاً وألغى دلالة أفضل، ومن توقف في الحكم فإنما رأى الأدلة متكافئة ولم يجد مرجحاً، ومن فضل طول القيام في الليل وفضل السجود في النهار راعى خصوصية قيام الليل للمنفرد.. والصوب حمل كل دليل على حالته.. فالأفضل بإطلاق السجود؛ لأن السجود منتهى الإشعار بالعبودية لله والضراعة إليه، وقد تواترت النصوص على أفضيلته؛ فهو أفضل جميع أجزاء الصلاة، وهو من جهة أخرى أحرى بقبول الدعاء، وأما تطويل القيام فتفضل به صلاة على صلاة؛ فالصلاة التي يطول فيها القيام أفضل من الصلاة التي يقصر فيها القيام؛ إلا أن السجود أفضل أجزاء الصلاتين حال تطويل القيام أو تقصيره؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -