د.بكري معتوق عساس
وأنا طالب في المرحلة الابتدائية كنت أساعد والدي -رحمه الله- في مطعمه قبل أن أنصرف إلى المدرسة. كنتُ أتأمل في أولئك الزبائن فأجد فيهم السائق والنجار والعامل والحداد والطباخ والبنّاء والسمكري، وغيرهم من أصحاب المهن اليدوية. وكان اللافت للنظر أنهم في معظمهم من المواطنين أبناء البلد، ولم يكن أحد منهم يستحيي من عمله، أو يشعر بالنقص، بل كانوا يفتخرون بإتقانهم عملهم، وتميُّزهم فيه، إلى درجة أن عددًا من العوائل قد انتسبت إلى مهنتها، فكان في مكة بيت النجار، وبيت الحداد، وبيت الطباخ.. وهكذا.
ثم أفاء الله على بلدنا بما أفاء من خيرات، وبدأ ما سُمي بعصر الطفرة نتيجة لارتفاع سعر النفط، فأمَّها كثير من أبناء الشعوب الأخرى حتى وصلت العمالة الوافدة إلى أكثر من مئتي جنسية. في تلك الفترة ابتعد شبابنا عن ممارسة الأعمال المهنية حتى ظن بهم من لا يعرف تاريخ هذا البلد أنهم سيعيشون عالة على غيرهم، وأنهم لا يستطيعون تدبير أمورهم.
ليس صحيحًا أن الشباب السعودي قد أفسدته (الطفرة) وبات غير قادر على الإنتاج، بل هو -على خطى أسلافه- منتج مبدع متى ما وجد سبيلاً.
لكن من المهم هنا أن يعي الشاب السعودي حقيقة أن العمل الحر الحلال لا يعيب أحدًا؛ فقد كان أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم- يعملون بالرعي والزراعة والتجارة والنجارة والحدادة.
والانخراط في هذه المجالات المهنية سيوفّر للوطن كفاءات فاعلة، تغنيه عن الاحتياج للآخرين، وسيُحدث توازنًا محمودًا، وتوزيعًا سليمًا، بين من يسهم بعلمه وفكره، وفيهم من يسهم بعمل يده؛ فيحصل التكامل والتكافل.
لقد وضعت رؤية المملكة (2030) أهدافًا طموحة، لن نتمكن من تحقيقها ما لم نخُضْ كل مجال، ونقتحم كل ميدان. وفي شبابنا الواعد خير وبركة.
نعم.. ينبغي أن تبذل الدولة -حرسها الله- جهدها في تدريب الشباب، وتنويع الخيارات، وإتاحة الفرص، ولكن هذا وحده لن يبلغ منا أمانينا ما لم يبادر الشباب السعودي بالعمل المهني الجاد بعيدًا عن ثقافة كانت تتوهم (العيب) فيما هو في حقيقته شرف للإنسان.
ورد في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أكل أحدٌ طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يديه، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده».