د. جمال الراوي
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} (مريم: 4)، يخاطب زكريا ربّه في هذه الآية، يشكو إليه كِبر سنّه، ويشير إلى حالة تصيب عظام هؤلاء المسنين، فيها إعجاز علمي، وإشارة بليغة إلى ما يُصيب العظام من الوهن ومن الهشاشة، فتصبح قابلة للكسر بسهولة، لا تعود لديها القدرة على الحفاظ على قوام البدن واعتداله، فينحني الظهر، وتتآكل المفاصل وتصبح رخوة، وكثيراً ما تصادفنا في جراحة العظام كسور عنق الفخذ عند كبار السن، الذين لا تقلّ أعمارهم عن الثمانين سنة، نكتشف لديهم أمراضاً مزمنة أخرى مترافقة مع خرف شيخوخي، وقد فعلت السنون معهم فعلها، فأحالتهم إلى جسد بشري مهترئ ومتهالك، مع غياب للعقل والإدراك، وفقدان لكلّ صفات البشر، ويبقى لدى الكثير منهم لسانٌ يتحرك، ينطق بكلمات تتفاوت في معناها ومغزاها.
يتميّز هؤلاء المرضى العجائز، بصفة صريحة بأنّهم جميعًا يرتدّون إلى حياة الطفولة في تصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} (النحل: 70)، مع عدم القدرة على التحكّم بالبول و لبراز، وقد بلغوا أرذل العمر، وهي حالات تستدعي منّا الصبر والمجاهدة والتحمّل، وقد تكون إرهاصات وعلامات لحسن الخاتمة أو سوئها، وتنبئ بمصائر هؤلاء العجائز ما بعد الممات.
عندما نتعامل مع هؤلاء العجائز، نكتشف سوابقهم التربوية وأفعالهم الماضية، فألسنتهم تفضح الكثير منها، نحاول أنْ نتعامل معهم بكلّ رقّة وأناة وصبر، وقد نتلقى من البعض منهم سيلاً من الشتائم والسباب، وقد يلعنون آباءنا وأمهاتنا، فلا نردّ عليهم، وهذا ما يشعرنا بالأسى والحزن عليهم، لأنّنا نكتشف سوء خواتيمهم في ألسنتهم، وقد غاب عنهم الوقار وحسن الشيبة!
وقد أجرينا، قبل مدّة، عملية تثبيت لكسر في عنق الفخذ عند عجوز تبلغ من العمر مئة سنة، نظرت إلى وجهها ورأيت نوراً عجيباً لم أعهده من قبل عند من سبقها من العجائز، تردّد دون انقطاع (لا إله إلاّ الله)، وكان وعيها وذهنها صافيين، تجيب على أسئلتنا بكل دقّة ووضوح، وسألتها إنْ كان لها أولاد وقالت لي بأنّه كان لديها ابنٌ وحيد، توفي قبل سنوات، كما قالت بأنّ زوجها سبقها إلى القبر قبل سنوات.
عندما تقابل من أمثال هذه العجوز، تشعر بطمأنينة بالغة وسعادة كبيرة، لأنك تكتشف إنساناً صالحاً، يحمل في قسمات وجهه ولسانه الذاكر حسن الخاتمة، فتنفرج أساريرك وتبتهج عند النظر إليه، وربما تتساءل في سرّك: (إن مدّ الله لك في عمرك، هل ستكون مثله، أم تكون مثل غيره!).
يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يس: 68)، أي أنّ طول العمر يترافق، دائمًا، مع النكوص إلى حالة الطفولة، وتراجع قوى الإنسان البدنية والذهنيّة والعقليّة، وهي مرحلة أخيرة من ثلاث مراحل ذكرها القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (الروم: 54)، وأفصح القرآن الكريم عن صفة هذه المرحلة وقال عنها بأنّها أَرْذَلِ الْعُمُرِ. كتب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- آجالنا، وقدّرها لنا، فمنّا من يمتْ وهو طفلٌ صغير، والبعض يموتون في ريعان الشباب، وآخرون يمدّ لهم في أعمارهم حتى يبلغوا منه مبلغاً بعيداً، ولا يمكن الجزم في علاقة طول العمر وقصره مع حسن الخاتمة أو سوئها، على أنّ الشيخوخة قد تكشف جزءًا مخفيّا عن مصائرنا، لأنّك تجد ذا الشيبة عالة على أهله يحمّلهم أعباءً كبيرة قد لا يطيقونها، أو أنّهم يتحمّلونها على مضض، وتجده في المقابل فَقد وقاره ونكص على عقبيه، تتفلّت من لسانه كلمات بذيئة، وتكثر منه الشكوى والتأفّف والتذمّر!
سأل رجلٌ الرسول صلى الله عليه وسلم: أيّ الناس خير؟ فقال: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، فقال الرجل: فأيّ الناس شر، قال، الرسول: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ»، فطول العمر مع حسن العمل، مكرمة إلهية، ودلالة على حسن الخاتمة، بينما طول العمر مع سوء العمل وبذاءة اللسان، قد يكون دلالة على سوء الخاتمة، والله أعلم.