د.بكري معتوق عساس
يحمل الشعر في نسيجه الإبداعي عبقاً من الحكمة المكينة والموعظة الدافقة، ويُحيل في الآن ذاته الرؤية والرأي إلى معان شعرية تتجلى فيها عبقرية اللغة الشاعرة، وتتآزر فيها براعات التصوير وبراءات الدفق الشعوري الخفاق؛ لتأتي الصنعة الشعرية مزيجاً من الواقع والخيال، ومزيجاً بين الإمتاع والإقناع، وتراسلاً بين الحواس والمعاني، وتواشجاً في ذاكرة النظم والتأليف.
وقد وقعت على قصيدة رأيتها نموذجاً شعرياً فريداً في الصنعة والإحكام اللذين تمثلهما الشاعر في تصويره للدنيا وحقيقة أمرها ومآلها ومدارها ومسارها، وجملة ما توصف به من كونها دار فناء، وأن الآخرة دار الخير والبقاء، كل ذلك في حكمة شعرية رائقة تدين لها النفس بالتأثر والتسليم، ولا يملك من يطالها إلا أن يذعن لمعانيها الدالة، ودلالاتها القارة، ومضامينها الجامعة لشعرية الحكمة والوعظ والإرشاد، وتضافر القيمة الجمالية وتأثيرها العميق مبنى ومعنى.
وفي هذه القصيدة من معين العبرة ومنابع العظة والحكمة تجليات شعرية آسرة، من البحر البسيط تقول أبياتها:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت
أن السلامة منها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه
وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها
فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
لكل نفس وإن كانت على وجل
من المنية آمال تقويها
المرء يبسطها والدهر يقبضها
والنفس تنشرها والموت يطويها
والنفس تعلم أني لا أصادقها
ولست أرشد إلا حين أعصيها
واعمل لدار غداً رضوان خازنها
والجار أحمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها
والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن محض ومن عسل
والخمر يجري رحيقا في مجاريها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها
بركعة في ظلام الليل يحييها
نسيجٌ شعريٌ مغزولٌ بمعاني الحكمة ودلالات الواعظ، بزغت فيه صور الدنيا في أشكالها الخادعة وشكولها الخاوية، وانسجمت فيه تصورات الآخرة وتطلعات راغبيها، وتجلت المقاصد والمضامين في خطاب شعري منسجم في دواله، ومحبوك في دلالاته، ومعبر عن حقيقة الدارين، قصيدةٌ علا صوتها وتعالى صداها، وقرَّرت مصيرها، فيها تنطق المعاني وتتكلم الحروف بأسمى ما يكون عليه المعنى، وأبلغ ما يستجيده الحرف العربي الأصيل. تلك من أنباء الشعر الحكيم وإنباء الخواتيم عن داريْن، إحداهما متاع وغرور، والأخرى إمتاع وأجور، أولاهما فناء والأخرى بقاء، فأيهما نَشْتَرِي؟ وأيهما نَشْرِي...؟