أ.د.عثمان بن صالح العامر
كلما كان الإنسان أقرب إلى التلقائية والعفوية في حياته وسلوكه مع الآخرين كان في الغالب أقرب إلى السعادة وارتياح الضمير، فالحياة المتكلَّفة أو ما يمكن أن نطلق عليها الرسمية المحاطة بهالة من (البرستيج) المعقد تفقد الإنسان اللذة والمتعة وتغيّب البهجة الداخلية التي قد يتنعّم بها الفقير القادر على التكيّف مع الظروف قبل الغني اللاهث وراء الحياة بلا حدود، رغم كل المظاهر التي حوله والنعيم الذي هو فيه، وكما يُقال هذا في حق الأفراد يُقال في حق المجتمعات والأوطان، والمتأمل في واقع الإنسان السعودي يلحظ أن في مرحلة النفط الأولى التي مرّ بها الآباء ومن بعدها الثانية ثم الثالثة ولّدت هذه المراحل المتتابعة معها ألواناً من التعقيد، وقلبت حياة الناس وأثَّرت بشكل مباشر على تصرفاتهم الشخصية مع أنفسهم وحين احتكاكهم بالغير سواء في دائرة الحي أو المجتمع المحلي أو ... وتدخّل النفط بشكل مباشر في بلورة وجه آخر لمناسباتنا الاجتماعية واحتفالاتنا المختلفة، إذ نقلها من البساطة إلى التعقيد ومن التلقائية إلى التكلّف ومن الوسطية إلى البذخ والإسراف، ولعل من أبرز التغيّرات السلبية التي نمقتها نظرياً ونقترفها واقعياً ما حدث في مناسباتنا الاجتماعية خصوصاً مناسبة الزواج، وأصدقكم القول إنني حين أقف مع نفسي وأتأمل ما كان يحدث منا قبل (عصر كورونا) اتهمُنا في عقولنا، وأصل إلى قناعة جازمة بأن العادات والتقاليد غطاء ثقيل على بصائرنا حتى صرنا نرى الحق باطلاً والباطل حقاً، بل أشك كثيراً في قوامة الرجل السعودي وقدرته على اتخاذ القرارات العقلانية الواعية والمتزنة في دائرته الأسرية، فالغالبية منا نحن الرجال نعترف ونؤمن بأن ما كان يحدث من هدر اقتصادي طال الثروة الحيوانية والسلع الاستهلاكية الضرورية فضلاً عن الهدر في الوقت والجهد خطأ كبير، ولو دخلت مع أي منا بحوار عارض حول الإسراف والتبذير في هذه المناسبات لوجدته يتفق معك، بل ويسوق لك البراهين ويعلّل ويدلّل ويخوّف ويحذّر حتى ولو كان إنساناً بسيطاً، إذ إن هذا الموضوع من المواضيع المجتمعية الساخنة التي عمّت به البلوى وربما شرب الكثير من شبابنا كأسه المر وكل له فيه دلو وعنده منه خبر يقين. فالشاب قد يظل يسدد في ديونه التي علقت بذمته جراء هذا الحدث «ليلة العرس» سنوات من عمره تطول أو تقصر حسب وضعه الاجتماعي ومستوى عائلته الاقتصادي، ومن سيعتمد على نفسه ومرتبه الشهري في تسديدينه فغالباً سينقلب هذا البذخ والإسراف على استقراره الأسري في عش الزوجية الجديد.
إن المشكلة لا تكمن في ارتفاع المهر فهو قليل مقارنة بالمحسنات والإضافات التي تتواكب مع ليلة الزفاف وتلازمها سواء فيما يقدّم في صالة الطعام أو عند النساء وما خفي أعظم.
إنني أعجب من حال كثير من الشعوب التي عرفت فن البساطة في حياتها كالمجتمع الياباني مثلاً أو حتى أجدادنا في السابق وأتمنى أن نستفيد من الجائحة التي أجبرتنا على تغيير كثير من سلوكياتنا الحياتية في إعادتنا النظر بنمط حياتنا لنعود إلى البساطة التي افتقدناها، والمنطلق الذي تبدأ منه رحلة الألف ميل القناعة التامة بأن التكلفة وحياة الترف ليست هي الطريق لجعل القلب يتراقص من شدة الفرح، فالسعادة والطمأنينة لا يمكن أن تُشترى بالمال ولا تُوهب من غير، بل هي أمر ينبعث من داخل الإنسان بقدرة العزيز الجبار وكما تقول «دومنيك لورو» في كتابها الرائع «فن البساطة»: (علينا أن نكف من اليوم عن هذا التبذير قبل أن يأتي يوم نصبح فيه مجبرين عليه)، (إن البساطة حل لكثير من الصعوبات)، ورائع قولها: (... فما من أمر يستحق المكافأة أكثر من قدرتك على تقدير الأشياء في حياتك بمنهجية وصدق: ما الفائدة منها، وإلى أي عالم تنتمي، وأي قيمة تضيفها إلى حياتك؟) ترى ماذا ستضيف هذه المصاريف المبالغ فيها في ليلة العرس على حياة هذين الزوجين اللذين يرغبان في العيش الدافئ وتأسيس حياتهما الزوجية بحب وأمن واستقرار بعيداً عن المنغصات والهموم والأحزان وأولها «الدين» الذي هو هم في الليل وذل في النهار. وإلى لقاء، والسلام.