منال الخميسي
حين تحزم حقيبتك لأول مرة في حياتك وتترك أحضان والديك ودفء بيتك تشعر بالحزن وبأن أحداً اقتلعك من جذورك يطوى الطريق أمامك ولا تشعر به فقد تصحبك إلى جانب حقائبك ذكرياتك وحنينك لبيتك وعائلتك ووطنك.
انشغالك بما لا تعلمه عن مكانك الجديد إقامتك الطويلة أو القصيرة كيف تكون أفكار تشعر بها لأول مرة.
إلى أن تنشغل بإجراءات سفرك وبإعداد مكانك بعد الوصول.
يتبدد القلق شيئاً فشيئاً ثم تبدأ في الإعداد لإقامتك طالت أو قصرت.
الحنين والاشتياق للأهل لا يزال يؤرقك ولكن شيئاً فشيئاً تعتاد الاعتماد على النفس وإثبات الذات والتعرف على شخصيتك الحقيقية التي كانت تتوارى خلف شخصيات والديك ومن يكبرك.
تشعر بالفخر يوماً بعد يوم بما تحققه لذاتك بما تستطيع فعله وحدك دون الاستناد على ساعد غيرك، تدبير أمورك الحياتية وتنظيمها بمفردك يشعرك بنوع من الاستقرار والحافز النفسي القوي الذي يؤهلك لتحمل أعبائك التي لم تكن تعلم عنها شيئاً.
حين تمشي في شارع لا تعرفه ولم تعتد عليه ولم تكن لديك فكرة عن قوانينه تبدأ أولى اكتساب الخبرات لديك بالتعرف على أساليب حياة البشر في بلد وصولك وتضيف إلى معجم أفكارك الجديد كل يوم لغة جديدة حتى وإن كانت نفس لغتك، لهجة مغايرة، طبائع لم تكن تعرفها، حتى أنواع الطعام والشراب، الهواء الجديد، والطقس الذي لم تعتد عليه
هذا هو السفر.
السفر معنى رائع في حياتنا يجدد شخصياتنا ويكسبنا خبرات، نتعلم معه الكثير، ننتقل عبره من الضعف إلى القوة، من الاتكال إلى الاعتماد، لا يمكن أن تقارن أبداً بين شخصين أحدهما سافر والآخر ظل في مكانه لم يكتسب إلا خبرة معينة لم ير الجديد ولم يتعرف على متغيرات الحياة في الأماكن الأخرى على هذه الأرض.
السفر لا يعتبر رفاهية على الإطلاق وإنما هو ركوب للصعاب من أجل جني المعرفة والبحث عن الأفضل الذي لا يمكن أن يتحقق وأنت في نفس مكانك تغلق عليك أبواب غرفتك.
التعرف على أشخاص آخرين بلغات وطبائع وأساليب حياة تختلف عنك، يضيف إليك الكثير، تصبح نظرتك للأمور أعمق وأدق الأشياء التي كنت تراها عالية الخطورة في بيتك الصغير تكتشف أنها أفكار واهية أمام ما تلاقي من صعاب وأنت بمفردك بل ولابد أن تتخطاها دون الاعتماد على غيرك، حتى الشعور بالآلام يتغير فتصبح أكثر تحملاً حين لا تجد بجانبك من يبكي إذا تألمت أو من يسهر على راحتك.
لم يخلقنا الله تعالى على هذه الأرض كي يكون يومنا كأمسنا، كثير من الآيات حثت على أن نكتشف الأرض من حولنا، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم منذ صباه وهو يسافر حتى بعد البعثة ونزول الوحي علمنا (صلى الله عليه وسلم) آدابه وتعاليمه وأدعيته وحتى اختيار أوقاته.
كما كان للأئمة وعلماء الدين آراء عدة في السفر فكان للإمام الشافعي رحمه الله بعض الكلمات عن السفر:-
* تغرب عن الأوطان في طلب العلى
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصاحب ماجد.
السفر لا يعد كما يعتقده البعض وسيلة للتسلية وإضاعة وإهدار للوقت وإنما إضافة إلى عمر الإنسان تجارب ومعرفة وقدرات وقوة، يتعلم المسافر كيف يتعامل مع كل الفئات بل يستمع كثيراً غير متمسك برأيه الأوحد الذي لم ير غيره، يتسع أفقه، يتعلم أن يكون مرناً ويقدر الآخر، يتعجب الكثيرون من حب المرأة للسفر، ويتهمونها بقلة العقل، وإضاعة الوقت، ولا يعرفون أن المرأة كائن يتمتع بالقوة، بالفطرة، وليست القوة الجسمانية فحسب، وإنما القوة العقلية التي تتمثل في حب المغامرة واستكشاف الجديد والتعلم والتأمل مع الآخرين غير المعروفين لديها ولدى كل عائلة في وطننا العربي، ابنة أو أخت سافرت إلى بلد ما حول العالم حينما تعود تعود بصداقات ومعارف على درجة عالية من القوة الفكرية، بل ولا نستبعد أبداً أن تكون كيانات اجتماعية في البلد التي تكون بها تتبادل فيها ثقافة بلدها مع قريناتها تنقل إليهم عادات بلدها وتحمل أجمل ما عند الغير من ثقافة وفكر تنقلها إلى مجتمعها تنمية وتساهم بمعرفتها في رقيه وعلوه.
التعارف سنة الله على هذه الأرض ولا تتحقق هذه السنة إلا بالسفر والانفتاح على ثقافة الغير ومعرفتها.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} صدق الله العظيم.
إن كنت سافرت لمرة واحدة أو عدة مرات فاسأل نفسك هل عدت كما كنت قبل السفر؟
ستجد إجابات كثيرة تجعلك راغباً في تكرار التجربة أكثر من مرة ولأكثر من جهة.
لو كان لك قريب أو أبناء يرغبون في تجربة السفر لا تكن عقبة في طريقهم إن كنت أباً يخشى على الأبناء أو أماً تخاف وتقلق.
اتركوا لهم هذه الفرصة إن أتيحت، إن أردتم الاطمئنان عليهم اتركوهم يكونوا شخصياتهم بأنفسهم، يقوموا ببناء عقولهم واكتساب الخبرات التي لا يمكن أن يلموا بها وهم قابعون في غرفهم.
السفر تزداد معه المتعة والاسترخاء، ليس فقط تقوية الشخصية وجمع المعلومات، فبمجرد تغيير المكان الذي تعرفه ولو لمدة قليلة تعود بطاقة أكبر وبقابلية للعمل والإنتاج وعدم الشعور بالرتابة والملل.
يتعجب الكثيرون هذه الأيام من الإقبال الشديد على السفر بعد انحسار الوباء وفتح منافذ السفر، ولم العجب من أناس يعرفون كيف تكون الحياة وكيف يكون الحفاظ على عقولهم في تجدد دائم وحرص على تجدد طاقتهم ليعودوا أكثر إنتاجية وترابطاً.
ماذا تنتظر من شخص ليله كنهاره لا يرى جديداً ولا ينتظر جديداً، قراراته مفتقدة للحداثة والتطور والإلمام بمتغيرات الحياة.
ضعيف تجاه أي متغير إلى أن يغير مكانه أو يرى جديداً فيقوى وتقوى معه شخصيته وقراراته.
هو بالتالي شخص ضعيف إلى أن يسافر!!