عبدالرحمن الحبيب
قد يكون تقلص عدد سكان العالم أمرًا إيجابيًا من الناحية الاقتصادية كما تكاد تتفق حوله الدراسات، نظرًا للصعوبات الاقتصادية والتحديات البيئية التي يواجهها كوكب الأرض والضغوط على موارده الطبيعية، فانخفاض عدد السكان سيقلل الضغط على الموارد الشحيحة، وتتراجع الأضرار البيئية. لكن تشارلز جونز، الخبير الاقتصادي في جامعة ستانفورد لديه رأي آخر وفقًا لورقة بحثية صدرت مؤخرًا في أعقاب تأثيرات وباء كورونا على السكان، مخالفة كافة التوقعات حول علاقة النمو الاقتصادي بعدد السكان؛ خلاصتها أن أي آثار اقتصادية إيجابية على المدى الطويل تأتي من تقلص عدد السكان قد يتم فقدانها بسبب انخفاض القدرة الإبداعية للبشرية؛ فإذا كانت الأفكار هي ما تدعم النمو الاقتصادي وكان الناس مصدر الأفكار، فإن مصير جنسنا البشري يعتمد بشكل حاسم على الاتجاهات السكانية طويلة المدى.
التأثير السكاني لوباء كورونا أكبر بكثير من الوفيات المأساوية المباشرة بسببه، إذ تراجعت نسبة المواليد بنحو 15 % في الصين عام 2020، على سبيل المثال، كما سجلت أمريكا انخفاضًا بنسبة 15 % في الولادات الشهرية بين فبراير ونوفمبر من العام الماضي. ونتيجة لذلك، ربما يكون الوباء قد قدم التاريخ المتوقع لذروة تعداد سكان العالم بما يصل إلى عقد من الزمان، أي إلى خمسينيات القرن الحالي الذي يرجح أن يستقر فيه عدد السكان.
إذا كان عدد سكان العالم حالياً هو حوالي 7.8 مليار نسمة، فإن تعداد البشر لم يصل إلى مليار نسمة حتى القرن التاسع عشر، لكن العدد الإجمالي نما بعد ذلك بسرعة مضاعفة. تمت إضافة مليار ثان بحلول العشرينات من القرن الماضي، وما يقرب من ستة مليارات أخرى في المائة عام منذ ذلك الحين. لقد صاحب هذا الانفجار الكثير من القلق، وسبق أن حذر كتاب «القنبلة السكانية» لبول إيرليش (عام 1968) من مجاعة عالمية تلوح في الأفق حين كان السكان بين ثلاثة وأربعة مليارات.
لكن هناك من جادل بأن أعدادنا لن تستقر فقط بل ستنخفض. في كتاب الكوكب الفارغ «Empty Planet»، الذي نُشر عام 2019 قبيل وباء كورونا، كتب الصحفيان الكنديان داريل بريكر وجون إيبتسون أنه مع انخفاض معدلات الخصوبة في بلدان الاقتصادات الغنية والصاعدة، تميل في النهاية إلى مزيد من الانخفاض إلى ما دون معدل الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل امرأة. الآن، يعيش ما يقرب من نصف سكان العالم في بلدان تقل معدلات الخصوبة فيها عن مستويات الإحلال. باستثناء انعطاف ديموغرافي غير متوقع، فمن المرجح أن يحصل انكماش سكاني عالمي (الإيكونيميست).
الورقة المشار إليها في المقدمة عنوانها «نهاية النمو الاقتصادي؟ العواقب غير المقصودة لانخفاض عدد السكان»، والممتدة في 45 صفحة تتمثل فكرتها بأنه في العديد من النماذج يكون النمو الاقتصادي مدفوعًا باكتشاف الأشخاص لأفكار جديدة. هذه النماذج تفترض عادة إما ثباتاً أو تزايداً في عدد السكان. ومع ذلك، في البلدان ذات الدخل المرتفع اليوم، تكون الخصوبة بالفعل أقل من معدل الإحلال: فالمرأة تنجب أقل من طفلين في المتوسط. إنه احتمال واضح سبق أن تم تسليط الضوء عليه بالكتاب الأخير، «الكوكب الفارغ» بأن عدد سكان العالم على المدى الطويل سينخفض بدلاً من الاستقرار. ماذا يحدث للنمو الاقتصادي عندما يصبح النمو السكاني سلبياً؟ في النماذج القياسية، يتبين أن لهذا آثاراً عميقة: فبدلاً من استمرار النمو المتسارع، فإن مستويات المعيشة ستكون راكدة عندما يتقلص عدد السكان.
لقد مكّن التقدم التكنولوجي من تحقيق نمو مطرد في الدخل الحقيقي للفرد على مدى القرنين الماضيين حتى مع ارتفاع عدد سكان العالم. هذا التقدم التكنولوجي يعتمد على الأفكار الجديدة التي في حال غيابها سيتوقف النمو في النهاية. في غياب التقدم التكنولوجي، تصبح المصادر الخام أكثر صعوبة وأكثر تكلفة بالنسبة للتعدين وعدد أقل من المهام المطلوب القيام بها.. فالأفكار الجديدة تسمح للاقتصاد بالقيام بالمزيد بموارد أقل أو خلق مهام جديدة ذات قيمة لتشغل العمالة ورأس المال.
يقول جونز إنه يمكن للاقتصاد أن يزيد من تدفق الأفكار من خلال تعديل استخدامه للموارد البشرية: مثلاً، من خلال زيادة الاستثمار في التعليم وتشجيع المزيد من الناس على العمل في الأبحاث بدلاً من الإنتاج. لكن في حين أن هذه الحلول كانت كافية لتوليد الكثير من المعرفة الجديدة في القرن العشرين، فهي نفسها عرضة لتناقص العوائد. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن ترتفع نسبة السكان العاملين في مجال البحث والتطوير إلا بشكل كبير جدًا، وكما هو الحال من المرجح أن تنخفض إنتاجية كل باحث إضافي، وبالتالي على احتمالات استمرار النمو في الدخل.
باستخدام نموذج بسيط، يقترح جونز أن العالم قد يواجه نتيجتين محتملتين في المستقبل. إذا استقرت الخصوبة عند مستوى عالٍ بدرجة كافية، فإن سيناريو «الكون المتوسع» في انتظاره، حيث يرتفع مخزون المعرفة والسكان والدخل جميعًا إلى الأعلى باستمرار. بدلاً من ذلك، يمكن أن تؤدي دورة انخفاض عدد السكان وانخفاض خلق الأفكار إلى نتيجة «كوكب فارغ»، حيث تتراجع مستويات المعيشة حين تتضاءل أعداد السكان (الإيكونيميست).