في حين تنظر المجتمعات الغربية للمتقاعد الغربي بأنه الشخص الذي يملك خبرة عملية طويلة تجعله محط أنظار الشركات والمصانع وكل المؤسسات التي تتنافس للاستفادة من خبراته وتسعى لاستقطابه للعمل لديها, نجد على الجانب الآخر شريحة من المجتمع العربي تنظر للمتقاعد بأنه ذلك الشخص الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الموت، ما يدفع البعض لوصف المتقاعد باللهجة المحلية «يا الله حسن الخاتمة» في إشارة لقرب أجله في الحياة على الأرض وبالتالي عليه -وفقا لهذه النظرة- أن يتجه لمسار الزهد وينتظر على الرصيف استعداداً لعبور قطار العمر, ووداعا لكل أوجه النشاط العملي في الحياة الدنيا.
من هذا المفهوم تتشكل النظرة الاجتماعية للمتقاعد العربي لتأخذ بعدا اجتماعيا يحول بينه وبين العمل لدنياه وفقا لمضمون الآية الكريمة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}. ولذلك يشعر المتقاعد أن مسيرته عبر خارطة الحياة العملية التي رُسمت له مسبقاً قد وصلت إلى خط النهاية, وأن عليه حينئذ التوقف عند هذه المحطة والامتناع عن محاولات مواصلة الرحلة بما يتجسد في سعيه لإعادة توظيف خبرته العملية وإنجازاته وتجاربه البحثية لأجل استمرار مساهماته وتدفق عطائه في ميادين العمل امتثالا واتباعا والتزاما بتعاليم الاسلام التي تحث على السعي في طلب الرزق وتدعو إلى التأمل والتدبر والتفكر والتحقق والتقصي في كل نواحي الحياة المختلفة ما بقي الإنسان على قيد الحياة.
أحاول الآن توضيح الأسباب التي تمخضت عنها هذه النظرة الاجتماعية للمتقاعد العربي إذ إنه في الوقت الذي يتولى بعض المتقاعدين الغربيين قيادة دفة الأمور لكبريات الشركات العالمية في دول عظمى صناعية وغير صناعية, نجد على الجانب الآخر من المرآة أن المتقاعد العربي, وحين بلوغه السن القانونية للتقاعد قد يتولد لديه شعور يدفعه تجاه عدم الرغبة حتى في إدارة شؤون أسرته الصغيرة, وبالتالي يُلاحظ أن هذا الإحساس ينعكس على طبيعة تفاعل المتقاعد مع المجتمع بأن يتوارى عن الأنظار وربما يبادر أيضاً بطلب التقاعد المبكر نتيجة للضغط الاجتماعي عليه بأن يتنحى عن وظيفته أو يحال على التقاعد بموجب نظام الخدمة ليفسح المجال أمام الجيل الجديد ويتفرغ ليوم الأجل المحتوم.
ولهذا يضطر المتقاعد أن يغير مساره في الحياة، لا لنقص في قدراته البدنية والذهنية وانما لأجل أن يتفادى نقد المجتمع تجاهه لاعتبارات تتعلق بكونه تجاوز مرحلة القدرة على الإنتاج وتحقيق الأهداف البعيدة، الأمر الذي يدفع أصحاب هذه النظرة للقول بأنه وصل إلى مرحلة يتوجب عندها تخصيص كل وقته استعداداً لحياة البرزخ وتأهباً ليوم الجزاء والحساب, ما يثير فيه الشعور بأنه أصبح لاعبا «على دكة الاحتياط» ولم يعد ذلك اللاعب الأساسي في فريق العمل.
وهناك الجانب اللغوي الدّاعم لهذه النظرة من حيث إن كلمة «متقاعد» مشتقة من الأصل اللغوي لجذر الكلمة «قعد» أي ركن إلى وسائل الراحة وآثر البقاء على رصيف الحياة أو «دكة الاحتياط» مثلما يقال في المنافسات الرياضية.
من هذا المنطلق نلاحظ أن النحويين والإعلاميين ساهموا كذلك من خلال اشتقاق كلمة متقاعد في ترسيخ مفهوم التقاعد لأجل بقاء المتقاعد في عزلة تامة مع الذات, بعيدًا عن كل ما يحفّز العقل للتفكير في كل أنواع الماديات ونشاطات الحياة المتعددة. ولذلك أرى لو يعاد النظر في إطلاق هذه التسمية والبحث عن مفهوم لغوي آخر لوصف المنتهية ولايته أو المنتهية خدماته نظامياً بأسماء لا تشير دلالتها اللفظية إلى قرب نهاية المطاف كما في كلمة «متقاعد, أو متقاعدين ومتقاعدات».
ومن الناحية التنظيمية والتطبيقية يمكننا أيضا تأسيس قاعدة بيانات تتضمن جميع الذين بلغوا السن النظامية للتوقف عن العمل من أجل الرجوع إليهم عند الحاجة لطلب المشورة والرأي السديد من واقع تجربتهم العملية في مختلف جوانب الحياة العملية, أو لطلب تواجدهم في مقر العمل لفترة زمنية محددة كبدلاء جاهزين في حال تعذر تواجد أي من نظرائهم السابقين في فريق العمل ممن لازالوا على رأس العمل كما أوضحت في مقال صحفي سابق بعنوان «البديل المؤهل».
وعموماً فإن لدى هؤلاء المقاعدين من المخزون المعرفي ما يجعل خبرتهم وأبحاثهم وتجاربهم السابقة تشكل رافدًا قويًا لتفعيل برامج تطويرية وإطلاق مبادرات ورسم آفاق جديدة لخطط استراتيجية سوف تسهم في إيجاد حلول عاجلة وعلاجات ولقاحات فعّالة لكثير من الأزمات والمشكلات والعقبات التي تواجه مختلف الإدارات والمؤسسات والمنظمات في القطاعين الحكومي والخاص.