خالد بن حمد المالك
لا يكاد الجرح فينا يوشك أن يلتئم، فإذا بالجروح تتوالى نازفة، واحداً بعد الآخر، وكلما جفت دمعة حزن، إذا بأخريات تهل على وجنتي كل منا، ومع كل مأساة وحالة انكسار تمر بنا، علينا أن ننتظر المزيد منها، ودون أن تكون لدينا القدرة في السيطرة عليها، فانفجار هذا السيل العرم من دموعنا، وهذا البكاء الذي لا يتوقف ولا يفارقنا هو قدرنا في هذه الحياة.
* *
فنحن نبكي اليوم وبحرارة وفاة من نحب، ليكون لنا موعد غداً يتجدد مع بكاء آخر، بل مع أكثر من بكاء على من سوف يتوالى فقدهم من أخيار الناس الأعزاء، ممن كانوا رموزًا في حياتنا، وروادًا بيننا، وطلائع يشار إليها بالبنان كلما جاء ذكرهم، وأسماء كلما ذُكرت توالى الحديث عن نجاحاتها، والتميز الذي كانوا عليه في مسيرتهم الحياتية، بما لا أعتقد أن أحدًا تخفى عليه.
* *
فقد كان هؤلاء علامات مضيئة في مسيرة الحياة، وأرقامًا كبيرة ومشعة في سلم العمل، ونماذج رائعة في إنجازاتها، وصوراً لافتة في عطاءاتها، بما لا أعرف أن أحدًا ينكر على هؤلاء ما ترسخ في الذهن عنهم، وما ظهر على السطح مما التصق في أذهاننا من انطباعات تميزوا بها.
* *
لهذا فنحن نحزن كثيرًا عندما نخسر هؤلاء، ونجزع جزعًا كبيرًا عندما يغيبون عن المشهد الذي كانوا مؤثرين فيه، وتتكدر خواطرنا كلما تيقنا أنهم لن يكونوا معنا بعد اليوم، بل وإذا بنا نصاب بالوجوم، والشعور بالصدمة؛ لأننا فقدناهم ونحن أحوج ما نكون لعطاءاتهم.
* *
أقول هذا عن أحد النماذج السعودية الأكثر بروزًا ونجاحًا وتميزًا في مجال تخصصه في القانون والمحاماة، وهو الصديق العزيز الأستاذ المحامي صلاح الحجيلان، الذي وافته المنية، وانتقل إلى دار الخلود أمس الأول بصورة مفاجأة، فيما كان قبل وفاته بساعات في كامل صحته وعافيته يتواصل مع محبيه والمقربين إليه.
* *
نعم لقد كان الفقيد أحد أبرز القانونيين على المستوى العربي، ومن أشهرهم في المحاماة، بل أستطيع القول إنه من بين المحامين العالميين؛ نسبة لإنجازاته وشهرته، وحضوره العربي والدولي في كل ما له صلة بتخصصه وعمله.
* *
أما على المستوى الشخصي، فأقول عن الراحل الكبير، ومن خلال معرفة لصيقة به، ولقاءات متعددة معه، واجتماعات مستمرة فيما بيننا، إن الرجل مع كل نجاحاته، لم يظهر لي يومًا أنه يدعي بما ليس له به صلة أو نجاح من أعمال وإنجازات، بل إنه يُحرج كثيراً عندما يُضطر عند الطلب منه أن يتحدث عن تجربته، ما يجعله يحول أحاديثه بعيدًا عن المباهاة، إلى شيء من الأحاديث غير الجادة التي تريح النفس، وتطيب الخاطر، وتزيل الكآبة، وتزرع في الأجواء راحة البال.
* *
وأستطيع القول أكثر إن الفقيد لا يكاد يمر أسبوع واحد إلا ويكون لديه في منزله ضيوف من الأصدقاء والمحبين، حيث الكرم والجو الأنيس، إن لم يكن ضيفًا عند أحدهم؛ فهو كريم بطبعه، أنيس المجالس بمداعباته وتعليقاته، وبراءته، ونظافة قلبه.
* *
وحين نفقد صلاح الحجيلان ومن هو في حجمه العلمي وخبراته الواسعة، فنحن نفقد عقولاً وقامات، ونخسر تجارب وقدرات، وكلما كان من نفقدهم بمثل ما كان عليه صديقنا وحبيبنا أبوحسام، يكون فقده موجعًا ومؤلمًا، ولا بد أنه سيترك أسى وحزنًا لن يغيبا بسرعة، ولن يختفيا إثر فراقه خلال فترة قصيرة، مع ما قد تترك وفاته من فراغ ليس من الميسور أن يأتي من يملؤه في الزمن القصير القادم.
* *
لقد كانت وفاة الأستاذ صلاح الحجيلان مفاجأة وصدمة، لكنه سيبقى مشعًا وحاضرًا كلما تذكرنا الجانب الإنساني لديه، وحجم النبل الذي كان عليه، وسيظل قدوة للساعين إلى النجاح ممن كانوا بمثل تخصصه، إذا ما حاولوا محاكاته، وتتبع أثره، وبالتالي الاستزادة من معلومات عن أسباب نجاحه، وما أحوج الجيل الجديد من القانونيين والمحامين إلى أن يستفيدوا من تجربته، ومن أسباب نجاحه، ففيها من الدروس ما لا تغني الجامعات لوحدها عن التعلم من هذه المدرسة الشخصية المميزة، مدرسة صلاح الحجيلان.
* *
لكن للأسف إن مذكرات المرحوم صلاح الحجيلان، وسيرته الثرية، مات قبل أن يستكمل كتابتها؛ لأنه كان يريدها سيرة من نوع آخر، لا تُحاكي غيرها من السير، وتعتمد على الوثائق والمستندات والصور والنتائج، وهو ما أجّل وأخر نشرها، ليفاجئه الموت، قبل أن يضع السطر الأخير فيها، على أن مسؤولية إكمال ما بدأ به لكتابتها منذ عام يمكن لأبنائه وزملائه وأصدقائه أن يستكملوا ما بدأ به، بما لديهم من معلومات وانطباعات، وإن كنت أشك أنها ستكون بالمستوى نفسه، فيما لو أن أبا حسام هو من كتب سطرها الأول وكلمتها الختامية.
* *
رحمك الله أخي أبا حسام، وأسكنك في نعيم جناته، وغفر له رب غفور رحيم، وألهم أبناءه حسام وسلطان وفارس، وابنته حنين، وزوجته صفية بنت سليمان الحمد السليمان، وأخويه معالي الشيخ جميل وسعادة السفير محمد، وأختيه وداد ونجدية، وأسرته عمومًا، وأصدقاءه ومحبيه، الصبر على تحمل هذه الفجيعة، وعظم الله أجر الجميع.