مها محمد الشريف
غالباً ما يتخذ الناس من الحياة الغرض الأساسي ويتركون التحديات المختلفة التي ينبغي إدخالها إلى الواقع الراهن والرؤية المستقبلية، ولكنهم يتبعون المنتجات الأكثر انتشاراً والأكثر حدوثاً وتأثيراً، ولهذا لا تجد مخرجاً آخر سوى خطاب يعده الدارسون وفق تعليمات وخطوات لم يطبقوها فينصهر معظمهم في مكوناته، ولسان حالهم يقول: نحن نضع أنفسنا في أماكن مرتفعة ليتسنى لنا مشاهدة ما يعرض على خشبة المسرح بوضوح، وعلينا ترك المقاعد الأمامية لمن يهمه الأمر، ويتخذ صفته الرسمية ذات التشكيل الفعلي من طبقات رفيعة المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وهكذا فإن المبادئ الديموقراطية التي طالما أملت بها شعوب الشرق الأوسط منذ مطلع القرن التاسع عشر، فقدت في شكل كبير مصداقيتها بفعل التلاعبات الاستعمارية، وأدى ذلك إلى تقسيم الرأي العام في المجتمعات بشكل عميق وإن احتلت حيزاً سياسياً وإعلامياً واسعاً في الشرق الأوسط.
مع كل ما تجره معها من تسلط للدول التي لها مطامع إقليمية، ولسوء حظ منطقة الشرق الأوسط أنها عانت كثيراً من الأشكال الوحشية للاستعمار الأوروبي، حيث شارك بشكل كبير في تدخلاته أمام انتشار الأفكار الديموقراطية، وأعقبها التدخلات الإسرائيلية والأمريكية المفرطة التي غذت حركات الرفض والانغلاق، وعملت على التمزق الداخلي والعرقي من خلال الطوائف الدينية، فعلى مر التاريخ من القرن التاسع عشر فرض الإنجليز الهيمنة والتسلط على المنطقة الاستراتيجية انتهت بوطن لإسرائيل على حساب الفلسطينيين.
وعلى نفس الموجة شكل تنامي التنافس الأمريكي السوفياتي في الحياة السياسية لدول المنطقة ملتقى لخلاف الدولتين العظميين على النفط والنزاع العربي، فضلاً عن ذلك، أصبحت السيطرة عليها حيوية لسير الاقتصادات الغربية، اختلفوا اقتصادياً على منطقتنا واتفقوا سياسياً حيث اعتبر استالين الصهيونية هي بمعظمها ذات اتجاه اشتراكي وتنحدر من أوروبا الوسطى وهي محمية تقليدية للفرنسيين والإنجليز، ولكن سرعان ما تحول السوفييت عن الكيان الصهيوني الجديد منذ أواسط الخمسينيات من القرن العشرين، وتوجه منذ ذلك الحين إلى مساندة الحركات القومية العربية التي كانت تعمل على زعزعة السيطرة الفرنسية.
تغيرت بهذا المعنى عوامل مهمة في المنطقة وأدرك المرء أن الحقيقة تعد أكبر تحد تواجهه المجتمعات العصرية، حيث إن تطورها ملحوظ ومحيطها الثقافي ما زال غائباً في ظل تلك الأحداث ذات المطامع ولكن التواصل والتعارف والتخالط موجود ويغرف من عمق التاريخ الحيز المثير.
رغم التطور التقني لا توجد تجارب حاسمة تبرئ ساحة المجتمع الدولي الذي ورط العالم في سياسات مزدوجة وتنصل من مهامه الأساسية سواء ضد القمع السياسي وحماية حقوق الإنسان، ولم يكن له حياد إزاء غاياته وزعم كثير أن الغرب هو الذي يفاوض على السلام وفي حقيقة الأمر كل المعاهدات تضم الوصاية وإقامة دولة لإسرائيل، فليس هناك ما نقيس عليه حالة للاستقرار دون إسرائيل.
وليس أمامنا إلا غض النظر عن مراكز النفوذ في العالم التي تحمل مسؤولية الأوضاع الأكثر كارثية وينتج عنها خطط متخاذلة لتعزيز الدور الأمني المنشود للدول المتناحرة وما يدور بها من حروب أهلية وحفظ السلام والمساهمة في توفير الحريات وحل النزاعات والرعاية التنموية ولكن التوصيات الرسمية غير قادرة على تحديد الصلاحيات، وبذلك تم عرقلة بعض أولوياتها.
فماذا ينتظر العالم من جهاز حيوي يزداد طاقة وعلى قدرها تتضاعف السلبية، ليكون هذا القرن طاقة نووية تعني بالدرجة الأولى استخداماً سلمياً، وهو في الحقيقة عند محاور الشر يتضمن مخاطر بيولوجية واجتماعية وسياسية وبمعول العلماء أنفسهم، قتل مضاعف بالملايين، فماذا عسانا نقول أو نكتب عن عصر التقنيات وعن الترف التقني والمدنيين في فلسطين يقتلون بأحدث تقنيات الأسلحة؟!
لأجل هذا، يحق لنا أن نعتبر هذا الدور مبتوراً، فالدول العظمى خبأت ملفاته في صناديق حديدية حفاظاً على مصالحها وتركت الإنسان تتقاذفه أمواج شرسة لا يعلم أين يستقر ومن أي السواحل يتم انتشاله، فلو أدرك روسو هذا العصر لقال: (أي موكب من الرذائل سيصحب حالة الارتياب هذه؟ لم يعد في الصداقة إخلاص ولم يعد يوجد تقدير حقيقي)، فالأمم اليوم تمارس منهجاً متعالياً وتحدياً خطيراً جداً بعيداً عن العلوم والفنون، فهذا القرن أصبح مملوكاً ملكاً فردياً لدولة دون أخرى. وتشريعه يكافئ الأقوى فقط.