د.جيرار ديب
لاحظ الكاتب الفرنسي فولتير ذات مرة أنّ سكان باريس لا يطلبون شيئًا سوى «أوبرا كوميدية وخبز أبيض». لكن الخبز الأبيض لعب دورًا أسود في التاريخ الفرنسي، خصوصًا في فصول الثورة الفرنسية. فعندما اقتحم الباريسيون سجن الباستيل في 14 يوليو 1789 كان الثوار يبحثون عن المزيد من الحبوب لصنع الخبر الأبيض، بسبب الجوع الذي بدأ يضرب فرنسا.
استطاع الخبز الأبيض أن يشكل الشرارة لإحداث التغيير الجذري في فرنسا، وتقديم أهم نظام قائم على القانون المدني، فهل سنشهد شرارة الخبز الأبيض في لبنان لتغيير النظام الطائفي إلى نظام مدني، كما يطالب بتغييره أغلبية الطبقة الحاكمة؟ أم سيتمّ استيعاب ثورة الجياع مجددًا، وإجهاضها من قبل السلطة الحاكمة والأحزاب كما حصل مع الثورة التي أشعلتها ضريبة الـ6 دولارات على مكالمة الواتساب في 17 تشرين الأول 2019م
أعلن وزير الاتصالات السابق، محمد شقير، عن فرض ضريبة على كل من يستخدم تطبيق الواتساب وكلفتها 6 دولارات في الشهر، فثارت المظاهرات، ونزلت الناس إلى الشوارع، وأسقطت حكومة سعد الحريري. كان الكثيرون ينظرون إلى هذا الحراك على أنه التغيير الحقيقي القادم، فرفعت الشعارات المطالبة بقيام النظام المدني، بعدما أقرّ الجميع أنّ النظام القائم فاسد وانتهت صلاحياته.
جميل ذلك المنظر الذي شهدته ساحات وسط بيروت، فمنظر اللبناني الذي تخلّى عن انتماءاته الضيقة، ليفكر بلبنان الجديد، كان هو المسيطر في العلن. لكن في السرّ، كانت أيادي الأحزاب تتسلل إلى الداخل لتجهض الثورة، لهذا لم تستمر طويلًا، ولم يشهد لها النظام، فانطفأت، وتأجّل طرح تغيير النظام وتطبيق النظام المدني إلى أجل غير مسمى.
بالعودة إلى الثورة الفرنسية، لم تكن المطالبة بالخبز الأبيض الحافز الوحيد للقيام بالثورة وتغيير نظام الملكية، بل كان للفكر التحرري الذي نشره فلاسفة ومفكرو عصر التنوير الدور الرئيسي في تحرير الشعب من عبودية الخضوع المطلق للسيد الحاكم، وإسقاط صفة الألوهية عنه ومحاكمته على جرائمه. لكن هذا ما لم نجده عند اللبناني، فتقديس الزعيم، والدفاع عنه وعدم الخروج من شرنقة الطائفية التي بني لبنان عليها، أفشل كافة التحركات في الساحات وأسقطها.
لقد لاحظ المتابعون، لا سيما مسؤولي مراكز الإحصاءات والدراسات، أنه رغم الحراك الذي حصل، إلا أنّ الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان عام 2022، لن تحدث تغييرًا إلا بنسبة ضئيلة في خرق بعض المقاعد النيابية؛ وهذا إن دلّ على شيء، فعلى هيمنة الأحزاب في لبنان على محازبينها، وعلى المناصرين منهم.
أثبتت الأحداث أنّ في لبنان ما يعرف بشعراء البلاط، هذا هو وضع المفكرين وطبقة النخبة من المتعلمين والمثقفين في لبنان اليوم، إذ يتجندون للدفاع عن رؤساء أحزابهم أو زعماء طوائفهم، لا بل يولي بعضهم انتماءه للخارج الإقليمي على المصلحة الوطنية، فكيف السبيل إلى التغيير إذاً؟
على ما يبدو لن يكون هناك ثورة في لبنان رغم تردي الأوضاع الاقتصادية، وخسارة الليرة من قيمتها أمام الدولار، والحصار المفروض على لبنان دوليًا وعربيًا. فثورة الخبز الأبيض لأجل كسر الجوع الذي بات يطوّق أغلبية العائلات في لبنان، لن تقلب نظامًا، ولن تغيّر واقعًا، بل ستزيد من تردي الأوضاع الاقتصادية. لا يزال مشوار الألف ميل في بناء الدولة المدنية بعيد المنال في بلد يتكرّس فيه الانقسام الطائفي والمذهبي، وفي مجتمع لا شيء يدغدغ روح الحرية والتحرر في نفس مواطنيه.
نعم هناك جياع في لبنان على مثال جياع فرنسا قبل الثورة، ولكن لبنان لا يوجد فيه فولتير ولا جان جاك روسو ولا غيرهم من المفكرين الذين نشروا الفكر التحرري في عقول الفرنسيين، فثاروا جياعًا ولكن متحررين. فيما نجدهم في لبنان، يثورون جياعًا، ولكن خاضعين وخانعين لطوائفهم وزعمائهم، فالنفوس خاضعة، مطيعة لأسيادها وتأبى التحرر.
كل قضية مهما علا شأنها تبقى موضوع جدال ونقاش وانقسام داخل الشارع اللبناني. فالطبقة الحاكمة استحكمت بالبلاد والعباد، وجعلت من الفساد ثقافة عامة، ووضعت على الفاسدين خطوطًا حمراء فوق المحاسبة. لذا، فكل ثورة تريد كسر القواعد التي بني عليها لبنان ما بعد الطائف، ستصطدم بحائط المجموعات الحاكمة، وستفشل طالما في نيتها التغيير في اللعبة القائمة.
لن تنجح ثورات في لبنان، فلا الظروف مشابهة لظروف ما قبل الثورة الفرنسية، ولا الفكر اللبناني مستعدّ للتحرر، فكيف تريده أن يتحرر وهناك من لم يعلّمه معنى الحرية؟ من شروط نجاح أي ثورة، وإحداث التغيير الجذري المنشود، أن يكون الشعب مستعدًا مع دعم فريق من الطبقة الحاكمة، أو أن يكون إلى جانب الثوار قوة خارجية تتبنى ثورتهم وتؤيد مطالبهم، وهذا ما لا نجده في ثورات لبنان. فلا الثورة موحدة على أهداف مشتركة، ولا هناك من يريد كسر القيود الطائفية، فضلًا عن فرقاء من الداخل لهم انتماءاتهم الخارجية، لا بل يعملون لأجندات الخارج دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح البلاد.