د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
لا يستطيع من كانت مهنته الكتابة النجاة من سلطتها عندما تحتشد في الفضاء من حوله، فما يحدث في واقع الأمر هو استجابة لإغراءاتها والاستجابة لإغراءات الكتابة هو بالفعل البعد الأقوى في أبعاد سطوتها، وفي الموقف ذاته هو المستوى الأعلى في مستويات سلطة الكتابة، والحقيقة أن الكتابة هي التي تختار زمنها، وتأبى في لحظات الكاتب إلا أن تعيد كل شيء إلى مكانه وفق تصور الكاتب؛ بمعنى أنه يعيد صياغة الواقع بشروطه هو! وينجح حينما يملؤها بالحيوية والحركة، ولابد أن تتضمن الكتابة جزءاً قليلاً أو كثيراً من الكاتب.
والكتابة بمفهومها العام ساحة تحدٍّ ذاتي، ولكنها وثيقة بالمتلقي حينما يزفُّ تشجيعه، وترقُّبَه الحاني؛ وحتماً فإن لكل كاتب نسخة واحدة، ولكل قارئ نسخ كثر من آراء الكتاب وأفكارهم، وحتماً يعي الجميع أن الكاتب ذو حق في تحمل مسؤولية ما كتب, وتأويل النصوص مدخل للإبداع، ولا يمكن أن يتكون إلا من خلال مراحل قرائية، تؤسس للفهم الصحيح، وكثيرٌ من القراء يقبلون على القراءة من خلال مكون ذهني مسبق عن شخصية الكاتب، ومنهم من ينقد بعينه المتجردة، ويبقى حدوث الدهشة مطلباً في الأعمال الكتابية تتحقق من خلالها متعة التذوق وتترك أثراً خالداً في ذاكرة المتلقي، تلك الذاكرة المليئة بالحكايا والشخوص، وذلك العالم الممتلئ بتفاصيل من سكن فضاءات الكاتب وسكنته بكل ما قد يحيطها من إلهام العبور المكتمل لشواطئ الأعماق، وتأتي الدهشة من مبدع أرهقه التمني!! ولم يكن لنصوصه عثرات أولى، إنما قد يجدها طريقاً آمناً لصياغة وجدانه وتقديم عقله في صور شتَّى؛ وعلى الرغم من بساطة بعضها فإنها تحتضن مكوناً نابضاً، يحقق الدهشة التي يظل المتلقي يلاحق بكارة السؤال فيها عمَّن كان القول والمقال؟! ولمن؟!
وبين الكثافة والشفافية قد ينتحر المعنى، ويختنق، ولكن تبقى المعاني متواشجة في مرجعيتها مما يحقق الدهشة لدى المتلقي تجاه فطنة الكتَّاب ووعيهم بالمحيط، وقدرتهم على ضبط الضمائر ليكون بثاً على الهواء مباشرة لإثارة دهشة تملك القارئ، وإن بدا الطرح في بعض صياغاته حاضراً على تخوم المباشرة! وإلى أن تحدث الدهشة والانبهار لابدّ للمتلقي من مراقبة كثير من إشارات النص التي ربما تماستْ بقوة مع هيمنة الذات الآسرة، وبذلك تُبنى وتتأرجح، وقد تتلاشى. وعلى هذا النحو يبدو بعض الكتَّاب أصحاب طقوس يريدون بها بوحاً لابدَّ من الاقتراب منه، ويكون عادة معادلاً موضوعياً لمعاني الأمل المختلف عندهم، حين تتحقق الدهشة مما دار ويدور في فضاءاتهم. ولذلك فإن الكاتب يجعل مركزه الإنسان فحسب..
والكتابة مصدر للمعرفة الإنسانية وإن تباينتْ مستوياتها، وتكون خلاصة إعلانية في بعض طروحاتها، ولعلي أخصُّ الكتابة الصحفية التي باتت على حدودي؛ وكنت قد أصدرتُ حكمي عليها قبل أن يدخل هواؤها العليل من نوافذي؛ كنتُ أراها كتابة شغوفة بالأحاديث الفوارة وتكرارها، ولكنني عندما تحولتُ إلى أرضها الخصبة رأيتها تستقبل العالم بأسره كل يوم؛ وحقيقة هي منصة ثقافية تُنْصَبُّ أمام القراء لتقدم عروضها! وتنال أغلى الأثمان إن جادها غيث الفكر الندي الوارف؛ والذكرى الأوضح في الكتابة الصحفية هي ذلك المضمار الطويل الذي يسير عليه الكاتب، ولكل أسبابه في اختيار المغامرة والرحلة، والأهم من ذلك الاختيار ماذا يريده الناس؟.. وما يستطيعون تناوله؟.. وتبقى المهمة الكبرى للكاتب الصحفي أن يمنح المكونات المعرفية شعاعاً خاصاً في وسائطنا الإعلامية يتصدرها الشغف بالصيد وتبنّي طقوسه؛ ومن ثم قيادة الكلمة لمستوى المسئولية المطلوبة. ولما أن العالم الرقمي أصبح مقياساً لتقدم الأمم ورقيها والحكم على مستواها، فعلى الكتَّاب أن يقدموا الهبات والهدايا من الجهد الكتابي للمحتوى الرقمي العربي من تلك الأفكار النيرة بما يقيم الأطواد ويثريها.