عندما جئت إلى كلية المعلمين بالطائف 2004 تعرفت إلى زملاء أفاضل، ولكن كان مِن بينهم مَن هشّ وبشّ، مَن بسط المَرقي، ومد الجسور. وعرفتُ ثم رأيتُ فيما بعد، أنه يفعل ذلك مع الجميع: سعوديين ومتعاقدين، إنه الأستاذ الإنسان عالي القرشي، ومع جريان مياه الأيام في نهر الحياة تقاربنا،واغترفنا من هذا النهر شَرْباتٍ مشتركة في حب الأدب والنقد والنشاط الثقافي داخل كلية المعلمين أو جامعة المعلمين بالطائف -كما يحلو لي أن أُسميَها-. امتد هذا التقارب إلى المستوى الأسري فقدّمني عالي لإخوته ووالده ووالدي المرحوم -بإذن الله - الشيخ سرحان بن عمر القرشي، الذي أوصى عالي وإخوته بي خيرا، حتى صرت واحداً من (الهِمَلة) عموماً، ومن (القفزان) على وجه الخصوص.
عالي الذي يطبّق الرسالة الحقيقية للأستاذ: أن يعمل من أجل بيئته ومجتمعه ووطنه؛ فترتقي ذاته مع ارتقائه ببيئته، وينمو علمه وتزدهر معارفه إبّان بحثه عن حلول لما يصادفه من مشكلات.
إن هذا الفهم الواعي لرسالة الأستاذ جعل من عالي أستاذاً بدرجة إنسان، يحرص على تهيئة طلابه لمواجهة الحياة العملية و الثقافية- وهذا ما يريده الوطن(أي وطن)، فطلابنا الذين يمثّلون مُخرجات التعليم، هم الهدف الأساسي من العملية التعليمية. وهذا ما كان يدركه عالي عندما نظّم محاضرة ثقافية في كلية المعلمين جمع لها الأساتذة والطلاب. وبكل أستاذية وأبوة قدّم لنا ثلاثة من طلابه ليحاضروا أعضاء هيئة التدريس بالقسم عن الأدب السعودي في موقف لم يُعهد، وتجربة لم تُشهد، يمكن أن تُحتذي مثلاً في علاقة الأستاذ بطلابه. فهو شديد الحرص على أن يتشرب أبناؤه ثقافتهم الحديثة والمعاصرة، ويتنسموا عبير الأدبِ السعودي: شعرِه ونثرِه، ويتعرّفوا إلى أدبائهم المعاصرين؛ لدرجة أن الطالب يعرف معه من الأدب السعودي في فصل دراسي واحد ما يمكن أن يعرفه غيره في سنوات.
وعندما يتحدث أو يكتب في تراثنا النقدي القديم، نلمح عقلاً واعياً بمغزى التراث، ولكنه لا يحجب القرشيَّ عن إعادة التفكير في هذا التراث، ومحاولة تلقيه بشكل جديد، يخضعه لمنهج نقدي يجمع بين أصالة المطروح وحداثة الطرح، من خلال ذات تشبعت فأبدعت، كما فعل في دراسته عن قصيدة الحادرة التي أحصي قراءاتها، وعالجها نقدياً، ثم قدم قراءته الخاصة لتلك القصيدة.
ولا تقتصر أستاذيته على طلابه في كلية المعلمين وكلية الآداب من بعدها، ولكنها تشمل الطلاب الذين ناقشهم في أطروحاتهم لدرجتي الماجستير والدكتوراه في معظم الجامعات السعودية، وقد حضرت معه بعضها فوجدته يمزج علمه بحنوه، وأستاذيته بأخوة أو أبوة، ينقد في غير عنف، يوجه في غير تكبر، يطرح رأيه ولا يصادر رأي الباحث، وهذا ما جعله يحتفظ بعلاقة طيبة مع تلاميذه الذين صاروا زملاءه فيما بعد.
وتمتد إنسانية التجربة عنده لتعكس اهتمامه بالأدب النسائي السعودي حرصاً منه على إبراز الجانب الحضاري في المجتمع، وتأكيداً على أن التجربة الإنسانية لا تفرّق بين رجل وامرأة، وتأتي كتاباته عن الخنساء ورجاء عالم ولطيفة قاري شاهداً على ذلك.
تعد الطائف عشقا لا يفارق عالي القرشي فهو متيم بها لدرجة جعلته يؤنسنها، ويجعل لها شخصية تشكلها الأحرف والكلمات. وقد كان كتابه (شخصية الطائف الشعرية) أول ما قرأت له.
لقد قدمتُ للأدب السعودي أثناء عملي بالجامعة ما يزيد عن خمسة عشر بحثاً ومقالة بحثية، وكنت أحد مؤسسي مجلة النادي الأدبي بالطائف ومدير تحريرها، وشاركت في عدد كبير من المؤتمرات والندوات الثقافية، وكان عالي هو السبب في أن يفتح الله كل هذه الأبواب أمامي، إنه مسكون بالعطاء.
بقيت كلمة وهي أن روح الإبداع جعلته يتفنن في تدبير (المقالب) لأصدقائه، وقد نالني منها الكثير، حتى رأيته في إحدى المناسبات يقع ضحية (مقلب) دبره صديقنا المشترك المفكر الفيلسوف الأستاذ الدكتور عايض الثبيتي، وعايض يستحق مني هو والرجل المحترم الدكتور محمد قاري أن أكتب عنهما، والفضل في معرفتي بهما يعود - بعد الله- إلى عالي. ما أروع هؤلاء الثلاثة من أبناء الطائف!
وأخيراً أقدّم الشكر للنادي الأدبي الثقافي بالطائف، والتهنئة لأخي عالي بمناسبة إصدار مؤلفاته الكاملة التي تعد زاداً لطلاب العلم: قبل التخرّج، ودراسات عليا، وما بعدها.
** **
أ.د. عاطف بهجات - أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة عين شمس وجامعة الطائف