للرِّجال قيمة ولقامتهم مهابة وقدر، إذا حضروا تسيَّدت حضرتهم المكان، وعلت مَن حَضَرَهم الهيبة تجلَّةً، يتحفَّزون بمحضرهم لهم ولأجل مخاطبتهم، وإذا سما على ذلك جمال العلم وكمال الحلم، وفوقه وقار وخط الشَّيب العارض في العارض فيزداد بذلك فوق الهيبة هيبة، ينضاف إلى هذا كلِّه إذا كان لفظه حكمه (ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) [ البقرة: 269].
ولمَّا أن يسَّر الله لي الانضمام إلى كوكبة أعضاء هيئة التَّدريس في قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة ثالث ثلاثة أفرعٍ في كليَّة اللغة العربيَّة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، وكانت الكلية بل والجامعة وما زالت عامرة بالعلماء، وكذا حال قسمنا قسم النَّحو ففيه من جلَّة العلماء زرافات ما بين من وخطه الشَّيب وعارض بعارضيه المشيب، ومنهم من كان في الأَشُدِّ ممتعاً بنشاطَيه نشاط بدنيٍّ وصيال علميٍّ، فهذا حال القسم شيوخاً ذوي وقارٍ ورجالاً ذوي مقدارٍ، يشاركهم عديد من المحاضرين والمعيدين، وكلُّهم على قدرٍ عالٍ من الأدب والخلق والعلم.
فكان مجلس استراحة القسم ملتقىً ولا كالملتقيات! جماله وكماله برجاله، تتردَّد في جَنَبَاتِهِ حديثهم الماتع ما بين إحكام الأحكام، وأحدوثات الأخبار، ومستنطقات الأحداث في داخل الجامعة وخارجها، في الشَّأن الخاصِّ بالعربيَّة أو في الشَّأن العامِّ فيما يخصُّ العباد وما به صلاح البلاد بل وما يجري في خارج بلادنا يُدار حديثه بحكمة الشُّيوخ وحنكة العلماء، وذكر ما يشابهه من أحداثٍ خبروها وربَّما عاصروها.
وكان في هذا المجمع ومن بينهم رجلٌ شامخٌ طِوال يمتاز بقامة عالية وهامة قائمة، ومن سماته التي يلحظها من يرقبه في مشيته أنَّه إذا مشى يمشي الهوينى لا بالعجل المتسارع ولا هو بالمتراخي المتباطئ، تجلِّله الهيبه ويكسوه الوقار ولن تجد رائياً له إلا ويُقذف في روعه الإجلال والهيبة لحضرته.
إذا تكلَّم انتدبه الحاضرون فأصاخوا له، وإذا أدار حديثه استَمَعَهُ الجمع، وإذا اصطخب حديث المجمع في مسألة علميَّة ابتدرهم بحديثه فبزَّر المتحدِّثين بقوَّة الحجَّة ووضوح المحجَّة لا يغالط ولا يتهوَّك بما لا داعي له من فضول القول ونافق النِّقاش ومبترد الكلام، ولا يعني وَصْفِيْهِ بهذا أنَّ النُّكتة اللطيفة والمضحكة الخفيفة ليست في قاموسه، ولا من بسائط بضاعته، نعم ولكن لكلِّ أوان حديثه، ولكلِّ مقام مقال، وكان لا يُداري ولا يحابي، يعضد الخليل ويسند القليل مع الدَّليل، ولا يهيض المظلوم، ويطلب الحجَّة ويتطلَّبها، ويستوضحها قبل أن يستوضح قائلها.
ذاكم هو العالم العَلَم النَّحويِّ القدير: د. عبد الرَّحمن بن عبد الله الحميديُّ، وكانت من أوائل لقاءاتي بفضيلته ما كان قبل الالتحاق بقسم النَّحو والانضمام إليه فكان ذلك في المقابلة العلميَّة، وكنت قبل ذلك أعمل في التَّعليم العامِّ ما قارب عشراً. وقد كان د. الحميديُّ من ضمن اللجنة المكوَّنة لمقابلة المتقدِّمين على وظيفة الإعادة بالقسم، وكنتُ ممن تقدَّم تلك السَّنة الجامعيَّة: (1429هـ)، وممَّا أذكره من تلك المقابلة أنَّه سألني مسألة من مسائل باب التَّنازع على وفاق ما قال ابن مالك:
نحو: أظنُّ ويظنَّاني أخا
زيداً وعمراً أخوين في الرَّخا
[البيت: 285(العيوني)]
ثُمَّ بعد الانضمام إلى القسم، وعدِّي من ضمن جمعهم جمعتني بفضيلته لقاءات عديدة وملاطفات حديثٍ، ونقاشات لمسائل كثيرة، وذلك أنَّي حينما انتظمت في القسم كنت مستبطناً أسئلة عديدة لظواهر مسلَّمة يمكن الإيراد عليها، ومستوقفات لمسائل مشكلة عندي في النَّحو؛ وبما أنَّي جديد في القسم، ولرغبتي في الإفادة من أولاء العلماء المنتجبين، والأساتذة المنتخبين وهم في ميمنتي وميسرتي يغدون ويروحون في قسمنا قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة رأيت أن لا أفوِّت عليَّ الفرصة فاهتبلت ذلك بإيراد تلك الأسئلة، وإيراد الإيرادات على بعض ما يرد على ما هي مسلَّمات نحويَّة أو كالمسلَّمات، ممَّا اعتلج في صدري، واعتلق في ذهني من مشكلاتها. ومن اللطائف الَّتي انتهجتها أنَّي حينذاك لكوني جديداً في القسم فقد استنكفت من سؤال الأقران، فلا أسال حينها إلا من كان أستاذاً مشاركاً، أو من وخطه الشَّيب ومرَّ على حصوله على درجة (الدُّكتوراه) سنين عدداً، وصنعي ذلك إعذارٌ وحماية ووقاية، وذلك مني دفع لحظوظ النَّفس، فلو أنِّي سألت بمسائلي تيك زميلاً معيداً مثلي حينها أو محاضراً أو لتوِّه قد ناقش (الدُّكتوراه)، وأوردت عليه وقت المناقشة ما أوردتُ فربَّما ساء ظنَّه بي، فأدفع هذا المحتمل وأغلق ذا الباب، وأكتفي بشيوخ القسم. لأنَّ ترب الشَّخص أو قرينه قد يفهم منك ذلك أنَّه غضٌّ من قيمته، أو حطٌّ من قدره، فالشَّيطان حريص، وللنَّفس حظوظ؛ لذا ارتأيت أن أسأل- كما أسلفت الكبار- فالكبار تجاوزوا ذلك فقد رجحت حصاة عقلوهم، وتجاوزوا الأشُدَّ، واجتازوا القنطرة، وانتهجت ذلك حماية لنفسي ودرءاً لها من أن تُقحم فيما هو ليس من مقاصدها، أو أن يظنَّ بها الظَّن السَّيِّء، ومع ذلك فقد بلغني أنَّه قد قيل ما قيل عن عملي هذا إنَّ ذلك مني تكبُّراً وتعاظماً للنَّفس، فلم أحفل بهذا القيل، وعَلم الله أن ليس ذلك لي بخلقٍ على زملائي.
عوداً على بدءٍ فعُقدت اللقاءات وتواردت المسائل في جلساتٍ، وفضيلته يناقشك ويشارككها في الغد وبعد الغد فلا ينسى بل ينشغل بها ويبتحثها، فهو يرعيك سمعه عندما تسأله، ولحسن حظي أنَّي كلَّما وردت استراحة القسم لقيت صباحة شيخنا فضيلة الشَّيخ د. الحميديُّ ثَمَّ، وذلك من توافق استراحات جدولي مع جدول فضيلته، فكان ذلك من سانح الحظ وطالع الجدِّ، وإنِّي لأغتبط عندما أنفرد معه في المجلس وتخلو الاستراحة من جالسيها، ولمَّا استقبلني وأسئلتي برحابة صدره ولم يتبرَّم أو ينشغل عني أو يتشاغل، خصصته بأسئلتي وقلتُ لنفسي قد وجدت بغيتي، فلم أعدل به غيره، وإن كنت بادئ بَدء كنت أسأل فضيلته وأسأل غيره من كبار الأساتذة كما أسلفت حديثه، لكنَّ موافقات الجدول ألزمتني بفضيلته فالتزمت ذلك.
ومِن تلك المسائل مسألة ضبط دعاء الانتهاء من الصَّلاة، وذلك قولهم:(اللهمَّ لا مانعَ لما أعطيت) بفتح (مانع) اسماً لـ(لا) النَّافية للجنس، والنَّصُّ وجهه النَّصب لأنَّ اسمها شبيه بالمضاف، فحقُّه النَّصب لا البناء على الفتح؛ أي:(مانعاً)، ولقد تحدَّث عنها ابن هشامٍ في كتابه (مغني اللبيب)، وأشبع الحديث عنها ابن عنقاء في كتابه (الجواب السَّامي).
ومن ذلك قولهم:( يا غافلاً والموت يطلبه) أنَّه كما يذكر ابن هشامٍ أنَّه نكرة غير مقصودة، وعند إنعام النَّظر في المثال وتأمله نجد أنَّه من الشَّبيه بالمضاف؛ وذلك أنَّ قوله:(والموت يطلبه) متمَّمة للمنادى، فأنت إذا قلت مثلاً: (يا زيد، قل خيراً)، فالمنادى هو (زيد)، والمقصود بالنِّداء والغرض منه والمطلوب من المنادى هو: (قل خيراً)، وعند تطبيق ذلك على الشَّبيه بالمضاف مثل: (يا حسناً وجهه، قل خيراً) و(يا قانعاً بما قسم الله لك، قل خيراً)، فالمنادى هو (حسناً وجهه)، و(قانعاً بما قسم الله لك) كلُّه لأنَّ ما بعد المنصوب متمَّم له، والمطلوب من المنادى هو (قل خيراً)، وإذا عدنا إلى قوله:(يا غافلاً والموت يطلبه)، نجد أنَّ المنادى هو (غافلاً والموت يطلبه) كلُّه، وليس (غافلاً) فحسب؛ لأنَّ المطلوب من المنادى لم يُورد في هذا المثال، ويمكن أن يكون مثلاً (انتبه)، ولو كان المثال:(يا غافلاً، انتبه للموت) لكان ذلك سديداً في التَّمثيل للنَّكرة المقصودة، إذ فيه المنادى والمطلوب منه.
ومن المسائل أيضاً قول الشَّاعر:
(سلام الله يا مطرٌ عليها)
وذلك جعلهم (مطراً) في هذا الشَّطر هو زوج المرأة. قلتُ: أوليس الأقرب أن يكون (مطراً) هنا المراد به الغيث، وليس زوج تلك المرأة، ويكون من سبيل النَّكرة المقصودة المنوَّنة لا العلم المنوَّن.
وأعسر المسائل وأطولها نفساً مع استطالة بحث وتداوله وامتداده هي مسألة دعاء الرَّفع من الرُّكوع، وهي قولهم: (حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه مِلء السَّموات ومِلء الأرض)، وكان سؤالي عن نصب (مِلءَ) على أي شيء انتصب؟ وما الوظيفة النَّحويَّة التَّي يؤدِّيها؟ وكنت قد ساءلت بها أقواماً من أساتذةٍ وزملاء قبل مجيء إلى القسم، وتلقَّيت فيها أجوبة غير أنَّ لم أجد فيها ما يقنع بجواب مسدَّد، بل جلُّ الجوابات عليها إيرادات تمنعها إمَّا الصِّناعة وإمَّا يعترضها المعنى، وأنا أودُّ في ذلك جواباً سيوطيًّا، ومرادي به أن يكون جواباً كجواب السِّيوطيِّ لمَّا سئل عن توجيه النَّصب في قوله: (عدد، ورضا، وزنة، ومداد) ممَّا جاء في الأثر:(سبحان الله وبحمده عددَ خلقه، ورضا نفسه، وزنةَ عرشه، ومدادَ كلماته)، فقد أجال عقله فيها وقسَّم احتمالات المنصوبات ثُمَّ سبرها سبراً، وخرَّج كلَّ كلمة أنَّها انتصبت على خلاف أختها مع تجاورهما فقد لاحظ الصَّناعة ولم يغفل المعنى؛ فكان جوابه هو الجواب، وأصاب فيها عين الصواب من امتراس ومدارسة ومفاتشة نحويَّة. [انظر ذلك في كتابه (الحاوي في الفتاوي)].
والمسألة المطروحة أعني (مِلء) لم أجد فيما وقفت عليه مَن سبرها ليكشف في الإعراب خبرها، بل أسرع الأجوبة حملها على المصدريَّة؛ أي: مفعول مطلق. ولمَّا أن عرضتها على فضيلة الشَّيخ د. الحميديِّ، وذكرت له أن تعسَّر عليَّ فقه نصبها، واعتسر الجواب في روم وظيفة انتصابها، وبعد نقاشٍ استطال فيها أشار عليَّ- حفظه الله- بمراجعة كتب غريب الحديث لعلَّ أن يرد فيها توجيه لذلك، وكذلك شرَّاح الحديث، ومعربي الحديث من مثل كتاب (إعراب الحديث النَّبويِّ) للعكبريِّ، وكتاب (الزَّبرجد) للسِّيوطيِّ غير أنَّ هذا الحديث لم يرد في كتب إعر اب الحديث المذكورة آنفاً، وقد جاء في شرح السُّنن أنَّ اللفظ يجوز فيه النَّصب والرَّفع، والنَّصب على المصدريَّة، والرَّفع على الخبريَّة لمبتدأ محذوف.
وسرُّ الإشكال ووجه الاستشكال أنَّ لمَّا أن فاتحنا التَّوجيه أنَّه مفعول مطلق وأنَّ المصدريَّة هي الأَولى وأنَّه نعت للحمد أو يُحمل على الظَّرفيَّة وسبرنا ذلك كلِّه تبيَّن أنَّه يتوجَّه إليها عدد من الاعتراضات.
أولاً: أنَّ (مِلء) بكسر الميم، هكذا هي في الرِّواية، والمراد به حينئذٍ المقدار، فهو اسم لا مصدر، ولذلك يأتي في باب التَّمييز من المقادير وأشباه المقادير الَّتي تحتاج على تمييز.
ثانياً: أنَّه اسم مضاف إلى معرفة، والمضاف على معرفة يتعرَّف بهذه الإضافة ولو كان مصدراً، وإذا كان معرفة لم يكن نعتاً لـ(حمداً) المنكَّر.
ثالثاً: أنَّ تخريجه على الظَّرفيَّة ليس وارد من جهة الصِّناعة فليس المعنى على تقدير(في).
رابعاً: أنَّ المعنى وإن كان يخدم المصدريَّة لكنَّ بِنية الكلمة والصَّنعة تعارضانه، وجهة المعنى كذلك لا تخدم تخريجه على الظَّرفيَّة.
وأزف النِّقاش والمفاتشة في بحث المسألة كما بدا على الاختلاف وعدم الاتِّفاق والتَّوافق والسَّلامة من الاعتراض، وانتهى إلى عدم الانتهاء، بل البحث والمكاشفة عنه في الكتب فلعلَّها أن تكشف عن شيءٍ، وأعقبت ذلك فصول دراسيَّة لم يكن فيها التَّوافق واللقيا كما سنح القدر بذلك وسمح فيما مضى، فكان أن حمدت الله على اهتبال مساعفة ما تيسَّر واقتطاف ثماره، وإن كنت أخيل برقاً أحفل لكن لا تأتي الأمور على وفاق ما يودُّ الإنسان ويرغب فيه.
وتمضي الأيام والشُّهور، وفي ذات يوم ٍ حميدٍ طالعه كنتُ أقرأ في شرح رضيِّ الدِّين على كافية ابن الحاجب في باب الإضافة إذا بي أقف على أمرٍ من حديثه ذي شأنٍ، فكأنَّ به فكاك مسألتي وحلُّ معضلتي، وذلك أنَّه ذكر أنَّ الإضافة قد تأتي معنوية ظاهراً، وحقيقتها لفظيَّة، وذكر لها أمثلة من تمثيله، واستشهد لها بقول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطَّير في وكناتها
بمنجردٍ قيدِ الأوابد هيكلِ
فقال فيما قال: إنَّ (قيد الأوابد) إضافة معنوية ظاهراً لفظيَّة حقيقة، ومعناها: مقيِّدٍ الأوابد، فهي معنويَّة الإهاب لفظيَّة المحتوى والباطن، ولذلك جاءت نعتاً لـ(منجردٍ) النَّكرة، والنعت حقيقيُّه وسببيُّه يتبع المنعوت تنكيراً وتعريفاً.
وعلائق هذا الشَّاهد ولطائفه بمسألتي من جهة أنَّ (قيداً) اسم للحبل الَّذي يقيَّد به البعير ويعقل به، فهو مثل (مِلء) بالكسر الَّذي هو اسم لمقدار ما يضاف إليه. والتَّأكيد على تقييده بالكسر لأهميته لكونه هو ما جاءت به الرِّواية، ولافتراق اللفظ تفترق المعنى والدَّلالة بين الاسم والحدث، فيفترق الإعراب حينئذٍ، نظير ذلك قوله تعالى: (إلاَّ من اغترف غُرفة بيده) [البقرة: 249] ففي (غرفة) قراءتان بضم الغين وفتحها، فبالضَّم هي مفعول به لأنَّها اسم لمقدارٍ، وبالفتح مفعول مطلق لأنَّ (الفَعلة) واحدة مرَّات الغَرف، فاختلف إعرابها لاختلاف ضبطها لاختلاف معناها بين المقدار الاسم ومَرَّة الحدث= فكذلك الحال في (مِلء، ومَلء) فالكسر مقدار وهو الاسم، وبالفتح مصدر وهو الحدث. والأثر جاء بالكسر فحسب، والمعنى على الكسر لأنَّه يبيِّن مقدار الحمد لله تعالى.
فقلتُ حينئذٍ إنَّ قوله: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مِلء السَّموات، ومِلء الأرض) من هذا، فإضافة (مِلء السَّموات) إضافة معنويَّة ظاهراً لفظيَّة حقيقة، فعند ذلك تستقيم الأمور، وتكون نكرة كسابقاتها، ومعناها (مالئاً السَّموات)؛ أي: حمداً مالئاً السَّموات، وإعرابه والحال هذه يجوز أن يكون حالاً من (حمداً) لتخصُّصها بكثرة النُّعوت، ويجوز أن يكون نعتاً كسوابقه= فانحلَّت عقدة إشكال هذه المسألة، ولمَّا قرَّت نفسي بهذا التَّوجيه لاطفت أستاذي الجليل فضيلة د. عبد الرَّحمن الحميدي بالاتَّصال به، وخبَّرته الخبر، فسرَّ بذلك غاية السُّرور واغتبط بذلك، وما فرحه وغبطته بحلِّ المسألة بأكبر من غبطته بإصرار تلميذه إلزامه نفسه الوصول وعدم القناعة بما قيل لمَّا أن كان غير مقنع عندي، فله الشُّكر كفاء ما شكرني على ما وصلت إليه في جواب المسألة، فكانت هذه من لطائف فوائده، وحسنات توجيهه لطلابه ومَن يأخذ عنه وعموم قاصديه.
ومن لطيف المواقعات والموافقات أن أهداني أستاذي المبجَّل أد. تركي بن سهو العتيبي كتاب (البسيط في النَّحو) لابن العلج، وقد نشره أوَّل هذا العام(1442هـ) عن مركز الملك فيصل، وكان قد حقَّقه قديماً، فلمَّا تصفَّحته لفت نظري أنَّ ابن العلج ذكر ما أشار إليه رضيِّ الدِّين، وزاد عليه تفصَّيلاً وتوضيحاً [انظر: البسيط: 1/ 117 وما بعدها] من أنَّ الإضافة تكون معنوية ظاهراً لفظيَّة حقيقةً، وقد ذكرت ذلك لشيخي د. الحميدي فسرَّ بذلك غاية السُّرور أمتع الله بمحيَّاه.
ومن الذِّكريات الحميدة وكلُّ ذكريات مع فضيلته جميلة حميدة -أمتع الله به- أنَّني وقفت على ورقات (شبه مذكِّرة) بل هي مفكِّرة ممَّا كان يدرِّسه لطلابه، وكانت عن باب الاشتغال وأحواله المعلومة ما بين واجب النَّصب ولازمه وجائزه وممتنعه، وكان في لعرض ابن هشامٍ- رحمه الله- لها في كتابه (أوضح المسالك) ما يشكل لما يظهر من إلباس يستشكل فهمه، وإذا فضيلته من أجل ذلك تلطَّف بطلابه، وأملاهم أو استكتبوا عنه تلك المواضع محرَّرة منتقاة بلا نقصٍ أو استشكال، وإنَّني لنادم أن لم أحتفظ بتلك الورقات حينما أن وقعت بيدي، وقد وجدتها في أحد ممرَّات الكليَّة على مقربة من أحد قاعات المستوى الرَّابع فيما أظنُّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد كان لي عظيم الشَّرف وجليل المحمدة أن كان د. عبد الرَّحمن الحميديُّ هو مشرفي في إعداد رسالتي لدرجة (الماجستير) فقد أفدت منه فوائد عديدة، وفرائد لطيفة، واستثمرت إشرافه لي غاية ما يمكن من الاستثمار، فكانت توجيهاته وتعقيباته وتعليقاته محطَّ نظرٍ، وموطن عناية، فلها مني النَّظر الأجلُّ، والعناية التُّمَّى؛ لأنَّها من خبير كبير في هذا الفن، وليس نقده للنَّقد فحسب، ولا تعليقه لمجرَّد التَّعليق والتَّعقيب، بل هو صادق اللفظ، صادق النَّظر، صادق القول، صادق المنهج، صادق المقصد، هو عنوان الصَّدق.
وكنت أجهد في صوغ العبارات وتحقيق العناية بالأسلوب والصِّياغة، وأرسلها إلى فضيلته فتأتيني منه وقد أعمل فيها مبضعه وحدَّد عيبها ما بين أسلوب أدبيٍّ لا يحسن أو ليس هذا مكانه، أو صياغة غير مؤدِّية للمعنى ولا موضِّحته؛ لأنَّه حريص كلُّ الحرص على الاهتمام بالمحتوى أولاً، وصحَّة العبارة ثانياً من جهة اللغة، بعيداً عن التَّزويق اللفظيِّ والسَّجعيِّ فكان لا يحفل به، بل يُذم من جعله أولاً عنده من الباحثين، أمَّا ما جاء منه عفو الخاطر غير متكلَّف فهو مقبول عنده.
ومن اللطائف أنَّه شاركني في الإشراف وقتها الزَّميل التََّصريفيُّ اللوذعيُّ د. غازي بن خلف العتيبيُّ، وهو معدود من رجالٍ الصَّرف المحبِّرين، فكنا كلانا يشرف فضيلته علينا، واللطيفة هي أنَّني لمَّا أن أصلِّي مع فضيلته في المسجد الَّذي يصلي فيه لأسلمه ملزمة من ملازم ما أنجزته من الرِّسالة على عادتي مع فضيلته، يعتذر مني بأنَّ الزَّميل غازي اتَّصل به ليخبره أنَّه سيسلِّمه غداً ملزمة من جهده في رسالته، فيقول قد سبقك، ولكن انتظر إلى أن أنهي قراءة ما جاءني من زميلك، وإذا انتهى ممَّا سلَّمه الزَّميل أشعرني بأن أحضر ما عندي، وكان ذلك منه مراراً عديدة، فكان د. غازي سبَّاقاً لكلِّ خيرٍ وفضيلة.
فهذه من اللطائف والموافقات الَّتي وقعت مع فضيلته، وأختتم بهذه اللطيفة الاجتماعيَّة أنَّني قريباً صلَّيت معه صلاة المغرب وبعد الانفتال من الصَّلاة دعاني لبيته لتناول القهوة والشَّاي معه فاعتذرت، وذكرت أنَّي أريد أن أذهب إلى أستاذي المبجَّل أد. تركي بن سهو العتيبي لأسلِّم عليه ولي به حاجة، فأريد أن ألحق به في المسجد الَّذي يصلي فيه قبل أن ينصرف منه إلى بيته، فقال فضيلته: وتتقهوى عندى، ونحن ما تريد أن تتقهوى عندنا، ثمَّ قال بلهجته اللطيفة الظَّريفة: «ليه قهوتنا ما هي زينه؟» قلت: حاشاكم يا آل الحميديِّ من الشَّين، بل أنت الزَّين كلُّه! وجلست عنده وارتشفنا معه القهوة واحتسينا الشَّاي المنعنع إلى أذان العشاء، فعدَّلت من خطَّتي بأن تكون بعد صلاة العشاء، وهذه من لطائف الأحداث وجميلها مع ذوي العلم من الأعلام.
متَّع الله الأستاذ الجليل النَّحويَّ البارع: د. عبد الرَّحمن بن عبد الله الحميديَّ بالصَّحة والعافية، وأمتَّعنا الله وذويه وطلاب العلم بمهجته ومحيَّاه، وأطال في عمره ويسَّر له كلَّ عسير، وبارك له في عمله وعمره.
** **
د. فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح - كليَّة اللغة العربيَّة/ جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة
fhrabah@gmail.com