د. صالح بن سعد اللحيدان
في طرح المؤرخين ونقلة الآثار وتدوين أحكام الشرع في الأسفار إلى اليوم كنتُ قبلاً قد بينتُ كلام الخطيب البغدادي وما سلف القول حوله مفهوم بتلقائية الوعي لآثار الرواة، وهنا أتحدث عمن يروي آثار التاريخ أو العلم أو الأدب أو السير فكيف تكون الحال لو أن (صاحب البدعة) يأول ويُعلل أو أن من ينقل الأخبار والروايات هو نفسه من يُعلل ليمرر البدعة، قلتُ من يفعل ذلكَ لعله في حاله من حيث الأمانة وتحرير القول لعله أشد ضرراً من المبتدع كحال (الكليني) مثلاً أو المسعودي أو صاحب (الأغاني) أو صاحب (الطالبيين) أو ما دونه (القمي) أو صاحب كتاب (خاص الخاص) أو مؤلف كتاب (حدائق الأنوار) وهو من أشدها ضرراً.
وغني عن القول إن فرقة (الخوارج) لهم رايات متنوعة ومبثوثة وهم أهل تأويل في كثير مما ألفوه وقاموا به.
ولهذا يحسن التوقي من حالهم، وفي (منهاج السنة) لابن تيمية رحمه الله تعالى بيان تام عن هذا وهو كتاب تاريخي تحليلي نقدي جدير بالقراءة وعمق النظر وتدبر آثاره ورواياته والمقصود أن من كتب في التاريخ أو الآثار أو الأخبار، أو من صنف في العلم الشرعي وسياسة الأعمال كابن فرحون والقرافي وأبي يوسف ومحمد الشيباني والآمدي والسهيلي والمازري وكذا خليفة بن خياط وأسامة ابن منقذ من رواة الأخبار والسير. فإن مثل هؤلاء يُعتمدُ عليهم في ذلك لأنهم أهل رواية ودراية وطول تجربة وشد الرحال بين بلد وبلد ومصر ومصر، وإذا تأمل المرء (تواريخ البخاري الثلاثة) فإنه واجد حقائق ما عنها محيص من أخبار وتراجم لحال كثير من رواة الآثار والأحكام وقد اجتهد الإمام (ابن شبه) وكذا الإمام (الأزرقي) فيما تناولا من آثار وأخبار (مكة) وسواها لكنهما رحمهما الله تعالى ساقا كثيراً من الآثار والروايات والكثير منها يحتاج إلى فحص وطول نظر وذلك لضعف بعضها وكثير منها ورد دون سند يقوم، وليس يُعذرُ أحدٌ بعدم معرفة حقيقة السند والرجال وطبقات الرواة لا يُعذر أحدٌ البتة لأن كل ذلكَ مدون عند ابن سعد في (الطبقات) وعند العقيلي في (الضعفاء) وعند الذهبي في (الكاشف) وهو مدون أيضاً عند البخاري في (التاريخ) ومرقوم في كتب الطبقات المدونة المتداولة، والذين يُطالعون الكتب هكذا.. ممن يُحضر للدراسات العليا أو ليكتب كتاباً أو ليلقي محاضرة أو ليلقي حواراً ما في باب من أبواب التاريخ أو ترجمة من التراجم أو في باب من أبواب الرواية ثم هو لا يستنطق العقل ولا يستدعيه ليكون حاضراً فيتأمل ويتدبر ويراجع ويستسير لا شك أنه واقع تحت وطأة العاطفة أو حضور القلب أو مجيء الهوى رويداً رويداً. فيخسر من حيث يظن أنه ألف أو حاضر أو على الأقل كتب مقالة من المقالات، إن قراءة التاريخ من خلال نظر وتدبر العقل وإن مطالعة السير ونظر الأخبار من خلال عمق النظر العقلي ونظر رؤية العقل المتوازن الرزين أجزم كل الجزم أنه وإن فاته شيءٌ ما فإنه سوف يتداركه بعد ذلك لأن العقل إنما سُمي بذلك ووُصف بالعقل لأنهُ يعقل صاحبه من الزلل يقدر ما لديه من قوة وتجربة وحياء واكتساب نظيف جد نظيف، تأمل بروية وحضور عقل مكين وهدوء ما دونه خليفة بن خياط أو حماد بن سلمة، أو كتبه السخاوي في (الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ)، أو ما دونه السيوطي في (تدريب الراوي) أو ألفه تعليقاً السهيلي فإنك واجد (العقلالمتأمل) قد كان حاضراً لأن صحة الخبر ولأن صدق الرواية ولأن جودة الأثر كلها تعود إلى نبش العقل عن السند الموصل إلى الرواية، لكن طالع (العقد لفريد) أو (البيان والتبيين) لابن عبد ربه الأندلسي والثاني للجاحظ فإنك هناك تجد السرد والتلقائية والاستطراد لكن العقل كان غائباً عندهما ولا ريب أنهما كتابان جيدان من حيث اللغة والنحو ودقة الوصف والرصف. لكن ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ إذا أخذت عشرين رواية وقصة من كل كتاب ثم تبين ذلك بعد النظر العقلي المتأمل المستوعب أن هذه الروايات وهذه القصص مكذوبة لعدم وجود سند أصلاً أو لأن السند كان مركباً ومخترعاً ليس إلا.. كيف ترى نفسك حينئذ؟ وليس معنى هذا أني أقول لا أحد يقرأ هذين الكتابين كلا. إنما أردت أن تسير على أرض صلبة على واضحة من سند جليل هناك ترى أنك تقرأ وتتدبر وتستفيد من الصحيح وهذا معلوم من حال ثقال العقول عبر القرون.