د. نورة سعيد القحطاني
واجهت المجلات الثقافية تحديات كثيرة في بيئة رقمية جديدة، فيما يتعلق بنماذج التحرير والأعمال، وخضعت لتغييرات عميقة. وتشير الدراسات الأخيرة حول الصحافة الثقافية بشكل عام إلى وجود أزمة بين الأسلوب التقليدي والرقمي، والقول إن: «العصر الورقي استنفد معطياته واستطاع أن يمد الإنسانية بوسيط خدمها ردحًا من الزمن واستفادت من تلك الخدمات، لكن العصر الآني في حاجة إلى ما يتماشى مع قوانينه وجديده. فعصر الاتصالات هنا هو عصر السرعة وعصر التفاعل، فمن المهم أن تجد وسائط تضمن هذه الخدمات ولم يجد البشر خيراً من الوسيط الإلكتروني ليكون موجها له وخادما، وحتى الخدمات التي يقدمها استطاعت أن تقنع الإنسان بضرورة الاندماج فيه والاستفادة منه؛ والتفاوت الحاصل بين الوسيط الورقي ونظيره الإلكتروني الرقمي هو الذي جعل التجديد ضرورة ملحة إذ لا يمكن للوسيط الورقي تحقيق ذلك».
ونعلم جيدا أن المجلات الثقافية مخصصة بشكل أساسي للأعمال الأدبية والفنية، التي يمكن تعريفها (على حد تعبير حنة آرنت) أنها: «تلك الأشياء التي تتركها كل حضارة وراءها كجوهر وشهادة دائمة للروح التي حركتها». وتلك الأعمال الفنية والأدبية ليست سلعًا استهلاكية، لها فترة محددة وتنتهي? بل هي ذاكرة الشعوب الأكثر ديمومة وخلودًا. وهنا تتفوق الأعمال الإبداعية على جميع الأشياء الأخرى؛ نظرًا لقدرتها على البقاء في العالم لفترة أطول من أي شيء آخر، والشواهد التاريخية كثيرة في هذا المجال.
لكن هذه المجلات الثقافية في الآونة الأخيرة أصبحت تواجه صعوبة في جعلها مثيرة لاهتمام المتلقي، حيث لا يمكن القول إنها تلبي حاجة المتلقي (المستهلك) إلى المعلومات المطلوبة في العمل اليومي وللحياة اليومية، سواء للترفيه أو الأخبار أو الاقتصاد. فالنشر الأدبي في العالم العربي وكجزء من العالم يعتمد على جمهور ضيق جدا. والمجلات الأدبية قد لا تصل إلى جمهور كبير من القراء، فالجمهور الكبير الذي كان يجد متعة في قراءة الأدب والروايات قبل الثورة الرقمية خلفه جيل يفضل الأفلام والتلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها. هذه الوسائل قدمت مجموعة من خيارات الترفيه التي لا تستطيع المجلات الثقافية -في الواقع، أو الكتابة الأدبية من أي نوع- أن تنافسها. وعلى عكس من يقرأ وقت الاستجمام المخصص للترفيه والهوايات وغيرها، يأتي قراء المجلات الثقافية كخبراء بدرجات متفاوتة من القدرات والأذواق التي تحدد للمجلات من سيقرأها وكيف سيكون الحكم على العمل المقدم. ولذا يجب أن تنمي المجلات الثقافية قراءً من الخبراء بدلاً من جمهور المستهلكين.
مما يعكس في المقام الأول الحاجة إلى الاهتمام بالعالم الرقمي وعالم الاستهلاك، الذي يركز على التسويق والأجندة والشهرة. وبات على المجلات الثقافية أن تطوّر تركيزها الثقافي وتفسيرها وعرضها للقضايا المختلفة بما يتماشى مع الثقافة المتغيرة وصناعة المستهلك والمشهد الإعلامي المتغير في جوٍ من التنافس والاحتراف. والعمل على تصميم نماذج التسويق والتوزيع لتعكس الخلود للمجلة الثقافية. فالمجلات الثقافية تقوم على التراكمية فيضيف كل عدد جديد من مجلة ثقافية نفسه إلى الأعداد السابقة، دون إلغاء أي منها، أو التقليل من أهميتها. وهذا يعكس الخلود والتراكم بدلاً من التواتر - النسخ التي لم يتم بيعها عند ظهور عدد جديد لا تزال صالحة كما كانت من قبل ويمكن أو ينبغي الاحتفاظ بها لمزيد من التوزيع.
وكي تصنع محتوى جيدا جاذبا عليها العناية بالدرجة الأولى بالمتلقي، وتحديد جمهور قراء المجلة ومعرفة اهتماماتهم، بالإضافة إلى متابعة قضايا المجتمع الملحة التي يعتني بها القارئ ويتابع ما يرصد ويكتب حولها. تبدو هذه الأمور جوهرية في النشر الثقافي، وهنا نشير إلى أهمية سيسيولوجيا الأدب التي تركز على «إقامة العلاقات بين المجتمع والعمل الأدبي ووصفها، فالمجتمع كائن قبل العمل، ذلك لأن الكاتب محدد به، فهو يعكسه، ويعبر عنه، ويتطلع إلى تغييره، وإنه ليوجد بعد العمل، وذلك لأنه ثمة علم اجتماع للقراءة، وللجمهور الذي يصنع من الأدب وجودا، ويقيم دراسات إحصائية لنظرية التلقي».
ولذا فإن دراسة اتجاهات القراء وردود فعلهم أصبح ضرورة في عصر التحرر الفكري والتجديد وكسر المركزيات التقليدية، فلم يعد (المعنى في بطن الشاعر/ «الكاتب») بل إن زماننا –حسب تعبير الغذامي- قد «سرق المعنى من بطن الشاعر ووضعه نارًا حارقة في بطن القارئ. لقد انكسرت مركزية المعنى ومركزية الذات الأولى التي تحتكر المعنى». وقد تكون مثل هذه الدراسات بابا لدعم استمرارية المجلات الثقافية.
والحفاظ على استمرارية هذه المجلات الثقافية التي تعالج موضوعات مهمة من النخبة المثقفة هو حفاظ على الهوية الثقافية، وحفاظ على الأدب الجاد في ظل انتشار الرداءة والخطاب المؤيد لسقوط النخبة الذي ينادي به البعض دون دراسة دقيقة لآثار اختفاء أو انحسار النخبوية لصالح الشعبوية، مما يثير مخاوف مستقبلية على الهوية الثقافية في ظل ذوبان الهويات كنتيجة للحداثة السائلة. فالخطاب الإعلامي قوة خطيرة تحدث عنها كثير من المختصين منهم (آلان دونو) في كتابه (نظام التفاهة) الذي تناول فيه (لغة التفاهة) التي انتشرت في عوالم الأكاديمية والاقتصاد والثقافة بهدف «إسباغ التفاهة على كل شيء».
ولهذا، فإن الدعم المؤسسي والفردي للمحتوى الثقافي الراقي الذي تحرص عليه المجلات الثقافية مهم جدا وله قيمة ثقافية ومجتمعية كبيرة لتحقيق التوازن أمام الهجمات الاستهلاكية، وللتصدي لهذا الانتشار المخيف لخطاب التفاهة.