د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** انقضى من عمر زاوية «إمضاء» أكثرُ من عشرة أعوامٍ وُثّقَ منها عام 2011م ما يفوق «مئةَ» حلقة نُشرت في كتابه: (إمضاء لذاكرة الوفاء)، واجتمع مثلُها وربما مثلاها فلم يُحصِها بعد، وبقي لديه إمضاءٌ سوَّفه طويلًا انتظارًا لموعدٍ أكثر ملاءمة.
** يعرفُ أنه لم يخطَّ كلمةً واحدةً - طيلة مسيرته الكتابية - متفيئًا ظلالَ نفعٍ خاص، وخشية تفسيرٍ لا يقبلُ التبرير جرى تأجيلُ هذا الإمضاء حتى لم يعدْ له اليومَ تعليل؛ فرغبةُ صاحبكم الشفهيةُ والمكتوبةُ في «الترجل» من موقعه محفوظةٌ لدى أستاذه منذ وقتٍ بعيدٍ في انتظار موافقته، وتقدّمتها اعتذاريةٌ رُفضت في فترة رئاسة الأستاذ محمد بن ناصر ابن عباس، ولا سبب سوى أنه قد أطال مُكثًا وحقُّه أن يستريح؛ فكذا صنع حين غادر «معهد الإدارة»، وهجر «التعاونَ الإذاعيّ»، وأنهى تعاقدَه مع «القطاع الخاص»، وقلّص نشاطه الاستشاريّ، وألغى ترخيصَ مكتبه الخاص، ولهذا حكايةٌ «سيريةٌ» إن أذنَ الله بكتابتِها.
** وإذن؛ فلا معنى لتسويف «الإمضاء» أكثر، وآنَ أنْ يَكتب سطرًا من سِفرٍ يستحقه أستاذُ الصِّحافة ورئيسُ الصحفيين والإداريُّ العاملُ بجناحي «المهنيّة والتحدي» الأستاذ خالد بن حمد المالك.
(2)
** قاد «أبو بشار» العملَ الصحفيَّ المؤسسيَّ أكثر من نصف قرن، وما الظنُّ أن أحدًا ماثله في هذا الإنجاز؛ فقد توارى رفاقُ الدرب المخضرمون، وانتحى الجيل الذي تلاه ومن تلاهم، وقدّم المالك - خلال عقودٍ - تجربةً تستحق الدراسة؛ فرئاسته الأولى لتحرير الجزيرة كوَّنت بناءً «مكتملًا» رسم عليه اسمَه ووسمَه، وحين عاد إليه - بعد غياب خمسة عشر عامًا- ألفاه «مكتهلًا» فأعاده جديدًا نضِرًا، وإذ تولى رئاسة هيئة الصحفيين فإن مسؤوليته تخطت «الجزيرة» سعيًا لإنقاذ المهنة الصحفيّة التي تحتاجُ إلى عمليةٍ جراحيةٍ كبرى تشبهُ تلك التي رافقت إلغاءَ صِحافةِ الأفراد.
** المالك إداريٌ مرنٌ يقظ، يؤمنُ بالتفويض والمساءلة، ومنذ عام 1999م - حين عمل صاحبكم معه مديرًا للتحرير الثقافي - لم يراقبْ موادَه، ولم يتدخل في استكتاباته، ولم يفرض عليه دوامًا محددًا، ولم يُتابعه في عملٍ استبطأه أو يلمْه على آخر استعجله، ومضى كُتّابٌ وجاء سواهم، وانكفأ محررون وحلَّ غيرهم، وظلّ سندًا يشدُّ الأزرَ ولا يُصدرُ الأمر.
** مضى من عمر «المجلة الثقافية» قرابة عشرين عامًا -3-3- 2003م - وصدر منها حوالي «سبع مئة عدد» ولم يختلف «الرئيس» و «مدير التحرير» يومًا، واكتفى الأستاذ بإحالة ما يردُ من ملاحظات أو مساءلاتٍ إلى صاحبكم الذي يُعدّ الردود ويقدم الإيضاحات ويتحمّل التبعات؛ فسار المركب رُخاءً، واطمأنَّ «الأستاذ» إلى أن هذه المجلة – بنسختيها الورقية والإلكترونية - ستظلّ مصدرًا مهمًا للمعنيّين بالحركة الثقافيةِ السعودية.
** أبو بشار مؤدبٌ مهذبٌ لا تُسمع منه كلمةٌ نابيةٌ أو صوتٌ مرتفع، ومن عايش العمل الصحفي فإنه لا يعدم من يتمثل في سلوكه العملي ما يناقض طرحَه النظريّ، وشروحُ « الأستاذ» انعكاسٌ لشخصيته؛ فمخاطباته لطيفة تسبقها مفردات: « الأخ - الزميل – الأستاذ..» ويعقبها التوقيع والتأريخ بخطٍ «أحمرَ» جميلٍ، وعُهد في بعض القيادات الإدارية اصطفاؤُها لمن تود وإبعادُها سواهم، وبالرغم من قسوة الأعوام الفاصلة بين رئاستيه 1984-1999م فلم يُقصِ أحدًا قاطعه أو انتقده، ولم تصبح الاستقالةُ مادةً لحديثه؛ مزهوًا بها أو مهمومًا منها أو معاتبًا من يديرون ظهورَهم وَفقَ استفاداتهم.
** لا تعنيه الشللُ والتكتلاتُ الصحفية فلا يَجمع مريدين، ولا يستدرُّ الثناء أو يستدرج المُثنين، ونالته إساءاتٌ فلم يأبهْ بها إذ اعتاد على أضعافها، وتفوق في إِضعافها، وهو رمز إعلامي عاقلٌ بقوة وقويٌ بتعقل فلا يُرى بغير ما فرضته عليه تربيته، وغذَّاه انتماؤه، وارتضته أخلاقُه، واجتمعنا خارج الوطن في «دبيّ وأبو ظبي وباريس وبيروت» فكان أبو بشار هناك كما هو هنا، رزانةً وهدوءًا وحكمةً وترسما.
** عرف الأسرارَ فلم يحكِها، وسبرَ الأغوار فلم يستخرجْها، ويعلم عارفوه أنه يعلم، ويعلم هو أنه يعمل، وهو مؤتمنٌ لا يضعَ معلوماتِه الخاصةَ وخبراتِه العريضةَ وعلاقاته الممتدة داخل عناوين بارزةٍ كي يُرى بغير ما يَرى؛ فلا مباهاة ولا محاباة، ويظلمُ قلمَه حين يكتب لوظيفته؛ فإنما هو دورُه الرسميُّ، أما قلمه فمنطلق، وأسلوبه منعتق، وأفكاره حُرّة، ولعل سيرته – حين ينشرها – تَعبر أسوارَه، وليت وزارتي الثقافة والإعلام تُكرمانه بما يصفُه ويُنصفه.
(3)
** حين يُؤرَخُ لصِحافة الوطن في عهد المؤسسات فسيكون فصلُها الأهم ابنَ «الرس» الذي ابتدأ عسكريًا ناشئًا وموظفًا صغيرًا فصار إعلاميًا كبيرًا؛ أصدر الجزيرة يومية، وأسس جريدة المسائية دون انتظار، وأوقفها بقرارٍ وإصرار، وأدار شركة التوزيع الوطنية في أول ى خطواتها، وراهن على تحديات إنقاذ ما بقي من المؤسسة فكسب، وتبنى نشر مجلاتٍ متخصصة مع الجريدة فارتقت، وتولى توجيه طباعة «إصدارات الجزيرة الثقافية» عن «أعلام الثقافة السعودية» في مجلدات، وأنشأ الكراسي البحثية في معظم الجامعات، ونتجت عنها كتبٌ ومخرجات، وترك منصبه بشموخ وعاد إليه بإرادة، واقتسم الناس حبَّ «القصيبي» وأثبته المالك ب» الاستثناء»، ووثقه «للتأريخ»، واختصَّه غازي بثقته، واصطفاه ب «حديقة الغروب» و»سيدتي السبعون»، وهو الآن رئيس اتحاد الصِّحافتين: السعودية والخليجية، وله بضعة عشر كتابًا، ويدين له عشرات الإعلاميين والإداريين الذين تخرجوا في مدرستِه.
** الأستاذ خالد بن حمد المالك يحتملُ عناء اليوم كي لا يكون «رئيسَ التحرير الأخير»، ولولا الأزمة المالية الخانقة التي تعانيها صحف اليوم والنفق الذي دلفت إليه لغادر موقعه واستمتع بإيقاعه، فليُعنْه الله على تصديه لمسؤوليةٍ عصيَّةٍ تتطلعُ إلى ألا ينفضَّ عنها الآخَرون حتى يُحْيُوا مواتَها أو يُكبِّروا عليها أربعًا.
(4)
** الحقيقةُ لا تُجاملُ ولا تتجمّل.