لعلّ المتأمّل في الأبعاد الحضاريّة، في مرحلة ما بعد الكولونياليّة، يُدركُ مدى التورّط التاريخي للعقل الغربي في إنتاج الهامش؛ إذ يُشرّع هذا التورّط التاريخي للهيمنة والسيطرة والتحكّم في الهامش، في هذا المسار المعرفي يمكننا فهم العناوين المرْبِكة التي روّجت لها نظرية ما بعد الكولونياليّة مثل، الميتروبول، والتابع، والنزعة الإنسانيّة، والهامش، وهي مفاهيم تفضح وتعارض، في الوقت نفسه، المركز الغربي في التشريع العقلاني المقنّع للسيطرة والهيمنة. عندما شدّد مفكرو ما بعد الكولونياليّة مثل: إدوارد سعيد، وفرانز فانون، وهومي بابا، وجياتري سبيفاك .. وغيرهم في كتاباتهم على فكرة لا معقوليّة أفكار المركز الغربي وانعدام قدرتها على تحقيق الانسجام بين الأفكار والممارسات؛ مما يعني أن هذه اللامعقوليّة في التفكير تنطوي على تناقضات، فهي تجمع في صلب وعيها بين الاستقلاليّة في تصوراتها النظريّة والسيطرة في ممارساتها العمليّة؛ إذ يؤدي هذا التناقض إلى انقلاب الإنسان على نفسه؛ ومن ثمّ تبرير جميع أشكال الهيمنة والاضطهاد غير المباشر، وهذا أدّى إلى تفريغ القِيم الغربيّة من مضمونها الحضاري والإنساني، الأمر الذي حدا بالمركز إلى إقصاء كل ما لم ينتمِ إليه ويتبعه في التفكير والممارسات؛ من هنا ندرك أهميّة التحليل الحضاري لخطاب الهامش، باعتباره صدى، في بعض الأحيان، وردّ فعل، في أحيان أخرى على هذه اللامعقوليّة في التفكير والممارسة؛ إذ يكشف التحليل الحضاري عن آليّات تشكّل الظاهرة في الوعي العربي من ناحية، ومن ناحية أخرى الكشف عن آليّات المركز في الهيمنة والإقصاء وكذا وعي الهامش بما تنطوي عليه أفكار المركز من قيم حضاريّة، وهذا ما سوف تكشف عنه دراستنا للمدوّنات المختارة.
وعليه، إذا كانت نظرية ما بعد الكولونياليّة بمختلف أشكالها، السياسية والفكريّة والأيديولوجيّة.. ترى أنّه من المحال المساواة بين المركز والهامش فهل حدث هذا لأن الخطاب النقدي، لدى الهامش، وقع في فخ ردّ الفعل؛ إذ جاء خطابه النقدي مشروطًا بأيديولوجياته التي تثبت حضوره الفاعل، ولم يأتِ خطابه النقدي جدليًّا غير مشروط بما يسمح له بإدراك الأبعاد المختلفة لنظرية ما بعد الكولونياليّة. وهل يختلف تناول الخطاب النقدي للظاهرة لدى الهامش عن الخطاب الإبداعي لها؟ تتضمّن النظريّة أبعادًا حضاريّة ومعرفيّة إلى جانب أبعاد الهيمنة والإقصاء، وعلى هذا النحو، تظل ما بعد الكولونياليّة فكرًا جدليًّا ينطوي على المعنى الصارم باللا تطابق، أي إن الجدل هنا هو جدل فكري، يكشف عن طريقة في التفكير تتجاوز مسألة القول والحجاج والخطاب، كما تتجاوز دوائر الهويّة والتطابق لتتغلغل في الموضوعيّة التاريخيّة التي تسمح بالاختلاف والتنوّع؛ ذلك من أجل فهم صيرورة العالم وتحوّلاته الفكريّة. يأتي فعل النقد الحضاري بوصفه استراتيجيًا معرفيّة تختبر الوعي الإبداعي العربي في خطابه عن الظاهرة؛ وذلك لمعرفة رِهانات الوعي في الانفتاح على الموضوعيّة التاريخيّة بتوتّراتها وإشكاليّاتها لتحرير العقل من ولائه للأيديولوجيا أو الأسطورة. من هنا يجوز لنا طرح السؤال الآتي: لماذا خذل المركز نفسه ودخل في تناقضاته الحادّة بين الفكر والممارسات؟
إن الطابع البراجماتي في نظريّة ما بعد الكولونياليّة، أي كونها نظريّة تتضمّن إغراءات جديدة لاحتلال العقل بدلاً من احتلال الأرض، هو ما يمنحها قوّة تفكيرها الجدلي - النقدي؛ إذ تؤسِّس لوعي زائف لدى الهامش، وتوهمه بتحرّر هشّ يضعه دائمًا في صدام مع قيمه الخاصة. ولعل ما يتسم به هذا الطابع البراجماتي هو قدرته على الاستقطاب، ولكن في المقابل يتسم وعي الهامش بالمكافحة؛ إذ لا يستجيب إلى الحلول الامتثاليّة التي يفرضها المركز الغربي؛ ومن ثمّ يبدأ عمليّة نقد راديكالي لممارسات المركز بوصفها نتاجًا لنظام فكري جديد مشفّر للهيمنة وزعزعة الثّقة في الذّات. سوف نختبر قدرة الوعي الإبداعي العربي على إدراك فكر ما بعد الكولونياليّة بوصفه معطى تاريخيًّا ثابتًا، أو بوصفه معطى حضاريًّا متغيّرًا؛ إذ تقتضي طبيعة الفكر الحضاري معاودة بنائه نظريًّا خارج التقاليد (الأنساق الثقافيّة المحليّة والموروثة) والتقاليد المضادة ( الأيديولوجيا البيضاء)، تقتضي إجراءات النقد الحضاري النظر في ما به يكون الخطاب اختراقًا للفكر نفسه، أي بحث قدرة الخطاب على تعيين اللا متعيّن والائتلاف مع اللا مؤتلف؛ ومن ثمّ مواجهة اللا متطابق.
ارتبطت نظرية ما بعد الكولونيالية في الفكر العربي بأفكار ما بعد الحداثة، مثلما ارتبطت الكولونياليّة بالحداثة، ويصعب تحديد تاريخ محدّد لبزوغ الفكر الحداثي في الفكر العربي؛ لأن وعي العقل العربي بالتحوّلات الفكريّة لم يكن شيئًا جديدًا، أو مقتصرًا على العصر الحديث، فقد مارس العقل العربي فكرة الحداثة في العصر العباسي مثلاً؛ لذا يصعب تمييز الحداثة الجديدة عن المحاولات التي كانت تسبقها، ولاسيّما إذا اعتبرنا أن الحداثة تُعرّف باختلافها عن النزعات التقليديّة التي يشوبها الغموض لعدم اعتمادها على العقل، أو أنها تعبير عن مرحلة انتقال من مرحلة فكرية أدنى إلى مرحلة فكرية أرقى. لقد مارس العقل العربي تجربة الحداثة على نحو ما، بل عاشها في مراحل الإسلام المبكّر، عندما طالب الفكر الإسلامي العقل العربي بإحداث القطيعة مع كثير من التقاليد الثقافية التي يشوبها الغموض، والاعتماد على إعمال العقل في النظرة إلى الوجود والأشياء. فالحداثة العربية - إذا جاز التعبير - في مرحلة الإسلام المبكّر تجلّت في القطيعة مع التقاليد والممارسات التقليدية والخرافات التي تحدّ من قدرات العقل، وكانت تقوم - في سنواتها الأولى - بدور مهم في تغيير بنية العقل العربي، إضافة إلى تغيير نظام الحياة الاجتماعية، ومع تطوّرها في العصور التالية أخذت تستكشف قدرة العقل على المناقشة والوعي بالأشياء على نحو جديد، متجاوزةً التعاطي مع موضوعات جاهزة وأحكام مطلقة عن الطبيعة والأشياء، كما أن ظهور الفرق الإسلامية المختلفة وعلى رأسها المعتزلة دليل على جني العقل العربي ثمار حداثته المبكّرة. ولكنّ كثيرًا من الدارسين العرب لم ينتبهوا إلى ذلك؛ لأنهم اعتبروا مظاهر الحياة الفكرية في مراحل الإسلام المبكّر جزءًا من رد الفعل على التغيّرات التاريخيّة والتوسّعات الإقليميّة في النظام الاجتماعي العربي؛ لذا نعتبر فكرة الحداثة موغلة في القِدم عند العرب وبالتحديد في مرحلة الإسلام الكلاسيكي، وقبل أن تظهر الحركات الأصوليّة والسياسيّة التي مارست هوايتها في خنق الفكر، وتعطيل إعمال العقل معتمدة على سوء النيّة في تفسير النصّ الديني. الفكر العربي مُطالب الآن بمراجعة الحداثة العربية المعاصرة وإعادة النظر في أصولها العربية، بدلاً من اللهاث وراء الأصول الغربيّة. فالحداثة العربية كان لها طابعها التمييزي الخاص؛ حيث استخدمها القدماء للتمييز بين عهد الإسلام والوثنية، وتجلّت في العصر العباسي في السجال بين القدماء والمحدثين، وفي العصر الحديث تجلّت في ثنائية التراث/ والحداثة، أو الأصالة/ المعاصرة. ولكن من الملاحظ أن الفكر العربي الذي تتحكّم فيه قوى التقليد يتخذ موقفًا سلبيًّا من الجديد، وكان الموضوع الرئيس لهذا السجال هو إيجاد حلّ لتناقض قائم بين ما ينطق به اللّسان العربي وما يمارسه العربي نفسه. فالعقل العربي يرى أن المجتمعات الحديثة وصلت إلى مرحلة من التقدّم والارتقاء في المجالات كافة، ولم يعد هناك مجال للشك في تفوّق الفكر الغربي الحديث والمجتمعات الحديثة على الفكر التقليدي والمجتمعات التي ما زالت تعتقد في العادة. ولكن ظهر تيار فكري عمد إلى الخلط بين الفكر الغربي الحديث والمشاريع السياسية الاستعمارية والتوسعيّة للدولة الغربيّة؛ وذلك لتبرير وجوده؛ ونتج عن هذا الخلط أن ارتبط مشروع الحداثة الغربيّة الفكري في الوعي العربي بالاستعمار، فاختلط الأمر على الشعوب المستعمرَة؛ لذا اتخذت موقفًا عدائيًّا من الغرب ممثلاً في صورته الاستعماريّة، فبدلاً من مراجعة الماضي بالبحث في العلاقات التي تربطه بالحاضر، ومناقشة آليّات تطوّر أفكار الماضي وفاعليتها في تشكيل أفكار الحاضر، قامت قوى التقليد والأصوليّة (الثقافيّة- الدينيّة - الأكاديميّة) على السواء بإحداث القطيعة مع كل ما هو غربي، واعتبروه شرًا مطلقًا؛ لأنهم لا يعتقدون في مبدأ صيرورة الفكر على مرّ التاريخ؛ ومن ثمّ السعي نحو تعطيل هذه الحركة ما أدّى إلى القفز على مشروع الحداثة في الفكر العربي.
ولعلّ المتأمّل في الخطاب العربي عن نظرية ما بعد الكولونياليّة يدرك تعارض العقل العربي مع نفسه، مثلما تناقض العقل الغربي مع نفسه أيضًا؛ لأن العقل العربي عِوض أن يرتقي بالفكر حول هذه الظاهرة إلى صورته المنطقيّة المحضة، نزل به إلى صعيد التناقض الحادّ بين التقليد والحضارة ما أدى به إلى الالتفاف على الحضارة، فانتصرت الأيديولوجيا وزُيّفت المعقوليّة؛ ومن ثمّ لم يتفهّم هذا العقل إشكاليّة الوعي بأساليب الهيمنة، التي يأتي على رأسها الافتتان بالمنتج الفكري والسلعي الغربي، فوقع في مأزق التبعيّة دون أن يدري؛ لأنه لم يعِ أن حضوره يحدث بقدر تفاعله مع أفكار العالم الخارجي وتفاعله مع إرادته في الوقت نفسه. فهو ليس ساحة لردود الأفعال، بل هو كائن فاعل وفاعليته تتمثّل في قدرته على إحداث التغيير إلى جانب التلاؤم مع المعطيات الداخليّة والخارجيّة.
** **
أ.د. عبد الفتاح يوسف - جامعة البحرين
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com