حاوره - جابر محمد مدخلي:
«الحكاء المتمرس هو ذلك الرجل النادر الذي كان يزين المجالس في الماضي وتحس بغيابه في مجالس اليوم.. هو الوحيد الذي يتملك فن الحكي» ويقول أيضًا: «بينما كان الطائر ينزف، كانت الأغاني التي يرددها تلعق جراحه» هذه بعض الأهازيج الجميلة وهي كثيرة في روايته «نار المرخ» الصادرة مؤخرًا عن دار مدارك. إنه الروائي عواض العصيمي، مؤرخ الصحراء، ومحول حبّات الرمل إلى أوراق ناطقة. دخل السرد منذ أكثر من عقدين بمجموعات قصصية ثم بأعمال روائية ثم قرر أخيرًا أن ينقل لنا صحراء بأكملها ليدخلها في حواضر متعددة عبر نص سردي جميل اسماه «نار المرخ» روائي يحملك لتكون صحراويًا تحمل هوية الرمل، وتشم الهواء المتداخل مع أشجار المرخ، وبقايا فحم القهوة العربية. وأمام هذه التجربة الطويلة تلتقيه «الجزيرة الثقافية» بهذا الحوار المفتوح على مسيرته، وتجربته الإبداعية التي حفِلت بدراسات أكاديمية لنتاجه الأدبي، وحلّلت ما استوحاه الإنسان الكاتب عن الإنسان المكتوب.. فإلى نص الحوار:
- بدأتم النشر الإبداعي في عام 1997م بمجموعة قصصية بعنوان: «ذات مرة» فما الذي ترونه تغير في تجربتكم منذ هذا التاريخ وحتى الآن؟
- تغيرت أمور كثيرة، كانت البداية رغم بساطتها، أشبه بعود ثقاب اشتعل في قاعة كبيرة مليئة بالتحف والأثريات النفيسة، والمطويات المختومة برصاص قديم. وفي جانب آخر، أجد الزمن جاء بعيّنات كثيرة من الحياة أعرف بعضها وأجهل البعض الآخر، لكنها تحرضني على الدنو، والتأمل من قرب. لقد مرت أعوام كثيرة على أول كتاب في القصة قررت نشره يوم كان مسوّدة أحرص على إخفائها عن الأصدقاء ولما نشرتها شعرت أنني تعرفت إلى صديق يشبهني في تلك الفترة. قرأت أكثر عن القصة القصيرة وتعلمت منها الكتمان الفني والإيجاز السردي وعدم إفشاء سر النقطة الأخيرة.
- ما الفرق الذي وجدتموه بين النشر بدار سعودية والنشر بدار عربية لا سيما وأنتم بدأتم تجربتكم بدار البلاد للطباعة والنشر بجدة؟
- النشر في شكل عام هو معاناة الكاتب العربي المؤلمة وذلك أن دُور النشر تتسلم الكاتب كما لو أنه محكوم عليه بإعاشتها من ماله الخاص وحين يطبع كتابه عندها تمرر إليه رغبتها في عدم مطالبته إياها بحقوقه، وعدم مطالبته إياها بتوزيع كتابه، لكنها ترحب به إذا عاد إليها مرة أخرى. وقد مررت بهذه المعاناة مثل غيري من الكتاب ولا يزال الكاتب غريباً في هذا السوق ولن تنتهي معاناته إلا بإنشاء دار نشر سعودية كبرى تختص بالكتاب المحلي ودعمه وتوزيعه وترجمته وربطه بالشأن الثقافي العام في الداخل والخارج. لكني أعود فأقول إن تجربتي الأخيرة مع دار مدارك مختلفة فهي أول تجربة يحتفى فيها بالكتاب بطريقة لائقة وباحترام في التعامل.
- روايتكم «طيور الغسق» الصادرة عن دار أثر السعودية.. تُرجمت إلى اللغة الفرنسية، وتولت ترجمتها: ناتالي بونتان.. كيف وجدتم التجربة بلغة أخرى؟
- التجربة لطيفة لكن المشكلة في انقطاع الصلة بيني وبين كتابي في فرنسا، وقد راسلت دار النشر متسائلاً عن حظ كتابي من البيع والتوزيع والقراءة فأجابني أن حظه من ذلك صفر إلا إذا كنت أقيم في فرنسا أو أتحدث اللغة الفرنسية. لكن اللطيف في التجربة أن كتابي يمكن أن يمر به قارئ فرنسي بالصدفة، أو قارئ عربي متطلع إلى كتابٍ ما، فيحمله إلى بيته ثم يقضي معه سهرة جميلة حتى الصباح. وبالمناسبة فإنني أشكر الملحقية الثقافية بفرنسا على اهتمامهم الكبير بمشروع الترجمة ومتابعة الكتاب بعناية حتى مرحلته الأخيرة عند الناشر.
- افتتحتم روايتكم الأخيرة «نار المرخ» بحكاية أسطورية ، وخُتِمت كذلك؛ أيعد هذا «التكنيك» جاذب للقارئ أكثر؟ أم لإبقائه في مسار الأسطورة المتوارثة وأثرها؟
- لم يكن في بالي هذا السؤال، لكني حاولت أن أكتب الرواية لنفسي مفترضاً أنني قارئ آخر يبحث عن سبيل إلى الداخل. من التقاليد المعروفة في استقبال الضيف، الترحيب به عند الباب، ومنح أجواء اللحظة حرارة اللقاء. هل نجحت في ذلك؟ لا أدري. والأمر بالطبع ليس على هذه الصفة البسيطة لكنها مجرد مثال على افتراض أن حق الزائر في التعرف إلى المكان يتمثل في الفضول وطرح التساؤلات المتعلقة بالمعرفة ومحاولة التواصل مع المكان الجديد عبر الحواس والذهن والمخيلة والسؤال عن معنى وهكذا. الرواية مثل البيت المشيد ليس للسكنى وإنما للفرجة وإطلاق الحواس في إرجائه وتأمله من زوايا متعددة وهذا هو العيش الروحي في المكان / الرواية.
- رواية مخطوطة بلغة محكية سلسة وجميلة.. إلا أنه لا يكاد يخلو جزء منها من اللهجة المتعايشة مع أبطالها.. برأيكم: كيف يمكننا الربط بين هذين الصوتين الروائيين المتداخلين وبين حركة سير الأبطال بين البادية والحاضرة؟
- عندي تصور بأن اللهجة في الرواية تحفر أكثر في الثقافة المحلية وتبرز جوانب عديدة من الفضاء الشعبي لا تستطيعه اللغة الفصيحة بنفس الدقة ونفس الإلحاح. اللهجة كائن حي يضيف إلى نفسه الكثير من خلاصات التجارب المعيشة كلما كان الإنسان على قدر جيد من اتصاله بالواقع والتجارب في شكل عام. واستخدام اللهجة في الرواية ملمح جمالي مثلما ما هو ملمح محلي يتضمن صوراً من عادات الإنسان في العيش والتفكير والنظر بعيداً من التكلف والادعاء، فاللهجة وسادة الحكي إذا ارتاح المرء للقول خارج سلطة المجتمع وتقاليده في التصنيف الثقافي. وبالنتيجة يمكن أن تضيف اللهجة إلى الفضاء الروائي الكثير إذا ما أحسنا تشكيلها في طيات العمل في السياق المناسب والمسوغ المناسب.
- في الفصل الرابع من الرواية والمعنون بـ «السرير» شعرتُ كما لو أن المؤلف يكتب بصوت الرقيب؛ فهل هو حرص على النص أم القارئ؟
- لا أسميه كذلك، وإنما هي محاولة لمنح القارئ مساحة من افتراض أحداث لم يتحدث عنها الكاتب. فالقراءة تنشط المخيلة فتجعلها تعمل وفق ما يسكت عنه السياق النصي فتفترض دوراً في سد فراغات يراها قارئ من القراء على صورةٍ ما، ويراها آخر بصورة أخرى. فالمسكوت عنه في بعض الأحيان ليس بالضرورة بسبب الرقيب وإنما لوضع القارئ في قلب الصورة وعليه أن يفعل شيئاً ما.
- جاءت الرواية بأسلوب الإنصات والكتابة.. كما لو أننا أمام تعليم مسموع؛ فهل حدث هذا الابتكار السردي كنوع بديل عن «المونولوج» الداخلي، أو الراوي عبر الذاكرة؟
- فكرت في الطريقة التي يمكن أن توصف بالجديدة في انتشال الرواية من ثقل البدايات. أول ما كان يهمني في بسط الخطوة الأساس في تكوين العمل من ناحية الشكل، وكذلك من ناحية الإحساس بالحدوث، هو ابتكار الإطلالة أو المجيء. يجب في نظري أن يكون المجيء لافتاً وجديداً، فأفضل مجيئات العديد من الروايات المهمة كان مبتكراً.
- توثق الرواية لمراحل توطين البدوي المترحل الذي أنهكه التجوال.. كيف تخلصتم من الكتابة التقريرية مع محاولتها الإصرار على التواجد عبر تدوين هذه الحِقبة في إشارات تاريخية قصيرة؟
- مرحلة التوطين كانت في غاية الأهمية لوجوه عديدة، لكني أتحدث هنا عن لحظة التحول الكبيرة التي نقلت البدو من الصحراء إلى القرى، من الانطلاقات الترحالية المضنية في عمق الصحراء إلى فضاء عمراني مستقر ولابث في الأرض. لقد انتهت البداوة الخالصة في هذه المرحلة، وبدأت بداوات صغيرة وهامشية تنتشر في المجتمع البدوي المستقر على هيئات وامضة سريعة المرور، مثل الحنين إلى الماضي، مثل ترديد الحكايات في المجالس وهي غالباً تعبر عن مرحلة ما قبل التوطين. وبداوات أخرى تجري بأشكال مختلفة، إذ يستحيل أن تنبتر العلاقة بين البدوي وصحرائه بمجرد أن يوضع في بؤرة إسكانية تختلف تماماً عن نمط عيشه وطرائق حركته في الماضي. الآن، ونحن بعيدون زمناً عن فترة التوطين تلك، ما يزال هناك الكثير من البدو يخرجون إلى الصحراء في إقامات مؤقتة، ومعهم ألوان من الحياة القديمة، مثل الإبل و»معاميل» القهوة والنار والأكل من طعام البادية التقليدي مثل إعداد الخبز على النار وتسخين حليب النوق.. إلخ، ثم يعودون بعدها للمدينة. خروج ودخول متناوب لا ينتهيان. فالصحراء للبدوي، حتى للكثير من البدو المقيمين في المدن، هي بمثابة الجذور التي لا تنفصل عن الذات والواقع.
- عاش أبطال الرواية بين موت حيث رحلوا يستقبلهم، وحيث استقروا يستقبلهم.. كيف تأتّت لكم المقدرة على الجمع بين مشاعرهم المتناثرة وقبورهم المتناثرة والمستقرة!؟
- كان هذا هو حال البدو قبل التوطين، وحالهم بعده. في الصحراء يأتي الموت مثل «طرقي» يحل فجأة، وهذا قريب مما يفعله «الطرقي»، أي الضيف حين يدخل في عيون القوم وأخبيتهم طلباً للقِرى. الفرق أن الموت يأتي ليأخذ شيئاً لا يعود، وكانت النتيجة أن مقابر البدو تتبعثر في الصحراء، فالميت يدفن فتنقطع صلته بالارتحالات المتواصلة، وعندما يمر زمن يُنسى موضع دفنه، وبالنتيجة يغيب عنصر التذكر على الأرض ويبقى التذكر الخاص الذي يلازم الحي. وعندما استقر البدو في الهُجر جاورهم الموتى في مقابر رسمية مسورة وعليها مهابة الأبد. لم يكن ذلك مما ألفه البدو في مرحلة ما قبل التوطين، لكنهم بالرغم من ذلك تعايشوا مع الجيرة الغريبة بل أكبروها.
- منذ انتهاء الفصل الرابع عشر من الرواية وحتى بداية السابع عشر بدا لي كما لو أنه حدث نوع من الإبطاء في وتيرة السرد.. فهل كان إبطاءً مقصودًا من المؤلف؟
- لم أجدها على النحو الذي ذكرت، وقد يجدها القارئ على نحو أقرب أو أبعد من انطباعك. وإن كان إبطاء فهو حتماً غير مقصود لذات الإبطاء، وقد يناسبه ذلك في نظر ناقد متمهل. لا أجزم.
- يمكنني أن أطلق على هذه الرواية «سيرتين سرديتين للبدوي والحضري.. كيف تعاضدت هذه اللغة الجميلة معكم حتى النهاية دون أن تتخلى عنكم؟
- لعل ذلك يعود إلى تصور قديم بعض الشيء عن مسألة مهمة في نظري، وهي أن الفضاء البدوي والفضاء الحضري في الرواية ليس بينهما حدود مغلقة وهي كذلك في الواقع بل هما قريبان من بعضهما أكبر مما يتصور البعض، لكنهما وضعا تحت تصور اجتماعي وثقافي خاطئ يقول إن الرواية ابنة المدينة ويجب أن تبقى كذلك، وهذا خطأ مدمر للهامش الذي تحتضنه التخوم، سواء من جهة المدينة أم من جهة الصحراء، ففي التخوم تتشكل حيوات كثيرة ليس لديها إشكال الفضاء المغلق بل هي تتقبل التشابك العمراني والثقافي الذي ترتجله لحظة العيش على التخم. وفي هذه التخوم يمكن أن تعيش الرواية في رغد سردي وتجدد فني كبيرين.
- انتهى النص بانتقام عجيب من قبيلة الأفاعي على بطل روائي عظيم عاش وهو لا يعلم أنّه مُطارد من قبل هذه القبيلة الزاحفة.. فهل أنت راضٍ عن الرواية منذ صدورها حتى الآن؟
- حتى الآن، تسير الرواية في شكل حسن والإقبال عليها لا يزال جميلاً.