اختبأ القمر تلك الليلة خلف جبال مدين تاركاً المهمة للمصابيح العتيقة تقاوم وحدها عتمة الليل، تجول الموت تلك الليلة في أزقة حارتنا دون أن أشعر به !.
تلك الليلة كان صديقي يقف أمام الباب الخارجي للمنزل ينتظرني لم أطل الغياب عليه عدت له أحمل رواية «تحت ظلال الزيزفون» تحفها عبارات الثناء والمديح ابتهج صديقي لأنه حصل على هذه التحفة الأدبية قلب أوراقها ثم غادر وغاب طيفه في أزقة حارتنا.
وفي الغد طوق صمت الرحيل شعاع الصباح القاتم, وكأن النهار جاء ذلك اليوم في موكب جنائزي مهيب كل شيء تلفح الصمت سواي أنا والريح التي بقيت تعبث بأوراق رواية «تحت ظلال الزيزفون» تقلب أوراقها تكاد تمزقها وصديقي تتصاعد أنفاسه يحلق الموت فوقه يكاد أن يغيب العالم عن عينيه.
لم تكن هذه النازلة الأولى التي تنزل بي عندما أهدي أحدهم رواية «تحت ظلال الزيزفون» للكاتب الفرنسي «الفونس كار» والتي عربها «مصطفى لطفي المنفلوطي» بكل عبقرية, فقد توالت النوازل علي وارتبت لذلك الأمر كثيراً وقررت أن أقلب صفحات التاريخ أبحث بين طياته عن كتب اشتهرت بنحسها. فلابد أن يكون في تاريخنا العربي من ربط بين حوادث معينة وقراءة كتاب بعينه، لم يخب ظني فوجدت أن قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان ذكر فيما ذكر أن كتاب مثالب الوزيرين لابي حيان التوحيدي من الكتب المحدودة وما ملكه أحد إلا وانعكس حاله يقول ابن خلكان «وقد جربت ذلك وجربه غيري على ما أخبرني من أثق به».
وفي ذلك الكتاب استقصى أبو حيان التوحيدي نقائص الوزيرين الصاحب بن عباد وأبي الفضل بن العميد وبين اللؤم والنقص في أخلاقهما.
وكما أن كتاب المقتضب للمبرد لاقى نفس المصير فقد أرجع البعض عدم انتفاع الناس بالكتاب على الرغم من أنه يعتبر أهم كتاب في النحو بعد كتاب سيبويه, لأن ابن الراوندي المشهور بالزندقة روى الكتاب فكان شؤماً عليه وفي ذلك يقول ابن الأنباري «ومن أكبرها كتاب المقتضب، وهو نفيس إلا أنه قلما يشتغل به أو يُنتفع به».
لاشك بأن هناك حكايات ونوادر كثيرة ارتبطت بالكتب فالكتاب ليس أوراق بين دفتين فقط بل يتجاوز ذلك ليغدوا ككائن مستقل وذلك ما سبق وأشار له الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه عندما ذكر في كتابه إنسان مفرط بإنسانيته تحت فقرة بعنوان الكتاب الذي كاد يصير إنساناً حيث قال: إن الكتاب قد يسموا فوق الأفكار التي ضمنها إياه مؤلفه ويحيا ككائن له روح وعقل ولكنه مع ذلك ليس إنساناً.
وتبقى هناك علاقات من نوع خاص بين الكتاب والإنسان تتشكل في الذاكرة تروى على شكل حكايات غرائبية أو في أحاديث عابرة تجلب الونس للنفوس التي تطير شغفاً بالكتب وهذا المقال هو إحدى تلك الأحاديث.
** **
- سلطان الحويطي