حسب التصنيف العالمي؛ المشكوك في أمره؛ تُعتَبَر «الواقعية»؛ هي «إحدى» المدارس الفنية! وعندما يتم تصنيف الفنانين يقال: هذا «حداثي» وذاك «تراثوي»! ثم تجد أن معنى حداثي: هو الفنان الذي يُبْرِز مواطن الجمال في «الحركة الاجتماعية»، ومواطن القبح في التخلف! أما التراثوي: فينتقي من التراث المليء بالتناقضات ما يقدس النص ويشل التقكير ويعيق «التقدم الاجتماعي»! ولكن ما دخل هذه التصنيفات بالواقعية؟ وما هي الواقعية بالأساس؟ ولماذا «الهجوم الشرس» من معظم الباحثين في المجال الفني على «المدرسة الواقعية»؟
الواقعية هي أولاً الاعتراف بوجود ما يسمى «الموضوعي» و»الذاتي»! والموضوعي: ما هو موجود في «الواقع» وليس في «الخيال»؛ أي «الواقع» في الطبيعة والحركة الاجتماعية؛ وهو مشترك عند جل أفراد المجتمع! والذاتي: هو ما يتصوره «الفرد»؛ سواء كان ذلك في الفن أو في المجالات الأخرى؛ وهو غالباً ما يكون «خليطًا» بين الواقع والعاطفة أو الخيال!
هذا الفصل بين الموضوعي والذاتي من أجل البحث العلمي فقط! فلا يوجد مجتمع بدون أفراد؛ ولا أفراد بدون مجتمع! ... صحيح أن الأفراد هم نتاج المجتمع في المراحل التاريخية المختلفة؛ ولكن هذا لا يعني أبداً أن الفرد هو مجرد «نتيجة»؛ وليس له تأثير على المجتمع؛ إنما على العكس؛ فلا يرتقي أو يتخلف أي مجتمع إلا بأفراده! والمجتمع بـ «رقيه» المحتوم؛ بغض النظر عن سرعة ذلك الرقي؛ «ينتج» أجيالاً جديدة من «الأفراد» أكثر عطاءً في العلم والإبداع!... إذن الموضوعي يؤثر على الذاتي والعكس صحيح!
الاعتراف بوجود الموضوعي والذاتي، وبوجود العلاقة التأثيرية التفاعلية أو الجدلية بينهما، ليس سهلاً على الإطلاق وليس صدفة أيضاً! فالباحث الفني عندما يهاجم «الواقعية»؛ إما أن يكون جاهلاً بمعناها؛ أو هو «تراثوي» يدفع باتجاه «الجمود الإبداعي»؛ وحصر الإبداع بالشكل لا بالمضمون؛ وإغراقه بـ «الذاتية» العبثية فقط!
في محاولة محمومة لتشويه الواقعية؛ يقول أحد الكتاب في «العين الإخبارية» في 27-3-2019: «الغرابة والخيال» صفتان اجتمعتا في معظم مدارس الفن التشكيلي، وخصوصاً المدرسة الرومانسية، ففي هذه المدرسة ينقل العمل الفني إحساس الفنان الذاتي وطريقته الخاصة في إيصال مشاعره للآخرين، ورداً على ذلك، ظهرت مدرسة جديدة في الفن سميت «بالمدرسة الواقعية».
اعتمدت المدرسة الواقعية على المنطق الموضوعي أكثر من الذات، وتصور الحياة اليومية كما هي دون زيادات أو نقصان، كما أن فناني هذه المدرسة تجردوا من أحاسيسهم وأفكارهم الخيالية ليتمكنوا من نقل الموضوع كما هو تماماً.
«التشديد في النص لي» وليس للكاتب! وأريد أن أوضح هنا أن الواقعية ليست رداً على الرومانسية أو غيرها من المدارس الفنية! وهي ليست «مدرسة» بالأساس! فهي «الحاضنة» الأساسية لكل العلوم والفنون! والإحساس لا يمكنه أن يكون ذاتياً وحسب، فالفرد كله بإحساسه هو نتاج «الواقع الموضوعي» المسمى مجتمع! ولم ولن يوجد فنان أو فرد «مطلق» أو منفصل عن تاريخه وجغرافيته وتفاعله الاجتماعي! أما تصور الحياة اليومية دون زيادة أو نقصان، فهذا ليس فناً! وإذا كان الكاتب يعتبر ما يسميه «مدرسة فنية» تقوم بمجرد نقل «الموضوع كما هو تمامًا»، فأين الفن هنا؟
من الواضح أن التناقض وتسفيه المفاهيم الموجود في النص ليس مصدره عدم الفهم! إنما التشويه المتعمد لمفهوم الواقعية! ولكي أوضح أن الشكل لا ينفصل عن المضمون؛ والذاتي لا ينفصل عن الموضوعي؛ سأتناول فنانين معاصرين من بلادنا؛ لهما تأثير وسمعة طيبة وواسعة:
أولاً كاتب القصة القصيرة والمقال المتميز محمد علوان: فهو اللصيق إلى أبعد الحدود بالحركة الاجتماعية اليومية والتاريخية! وإذا كانت القصة أو الرواية هي مرتبطة بالأساس بالحركة الاجتماعية، فمقالاته في الصحافة لا «تلزمه» بذلك، ولكنها دائمة «الإحساس» بـ«نبض الشارع» وسلامتكم!
وثانياً الفنانة التشكيلية المبدعة منى النَزْهة: التي تتحقنا بين الفينة والأخرى بلوحات جديدة؛ بل بمعارض جديدة! وبالرغم من الإنتاج الوفير لها؛ وسعة المساحة التي يتميز بها الفن التشكيلي عن بقية الفنون والآداب؛ إلا أنها لم تنفصل يوماً عن الهم الاجتماعي أو ما يسمى الواقع الموضوعي.
فليسامحني الفنانون الآخرون؛ فالمساحة لا تكفي؛ ولكن هناك نقطة لا يمكن تجاهلها؛ وهي أن تشويه المعنى الحقيقي للواقعية هو نشاط عالمي! وهناك دوائر دولية ترفع من شأن الفن الهابط؛ وتشوه المفاهيم؛ وتدفع أموالاً طائلة لتوجيه الفن للابتذال! ولكنها لم تنجح؛ حتى يومنا هذا؛ من تسويق «العبث»؛ أو جعله بديلاً للحداثة!
** **
- د. عادل العلي