د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في الكتاب المشهور للرحالة ابن جبير الكناني الاندلسي «تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار» ذكرنا بأخباره في أسفاره، وحلوله بمكة المكرمة شرفها الله، وكان ذلك في القرن السادس الهجري، وقد ذكر فيه الكثير عن أحوال الناس، وسبق التطرق إلى طرف من ذلك في مقالات سابقة.
في مقالة اليوم ننقل بتصرف بعض ملاحظاته عن أهل السراة وقدومهم إلى مكة، وكان يقال لهم «السرو» اشتقاقاً من طبوغرافية المنطقة وجغرافيتها، والسري، هو الشريف الماجد والسراة أيضاً تعني السمو والارتفاع، ولهذا فإننا نجد ابن زيدون بعد أن أودع السجن، ظلماً وجوراً، دفع وهو في سجنه بقصيدة إلى صديقه الوزير أبي حفص بن برد، يقول فيها:
ما عَلى ظَنِّيَ باسُ
يَجرَحُ الدَهرُ وَياسو
رُبَّما أَشرَفَ بِالمَرءِ
عَلى الآمالِ ياسُ
وَلَقَد يُنجيكَ إِغفال
وَيُرديكَ احتِراسُ
وَالمَحاذيرُ سِهامٌ
وَالمَقاديرُ قِياسُ
وَلَكَم أَجدى قُعودٌ
وَلَكم أَكدى التِماسُ
وَكَذا الدَهرُ إِذا ما
عَزَّ ناسٌ ذَلَّ ناسُ
وَبَنو الأَيّامِ أَخيافٌ
سَراةٌ وَخِساسُ
والشاهد هنا، هو قوله سراة، أي شرفاء أماجد، أما قوله أخياف فهو يعني المختلفون منهم السراة الأماجد، والخساس الأراذل، ولاشك أن المعيار هنا ليس المال، أو الأصل، وإنما حسن الخلق، ومكارم الأخلاق، التي حث عليها الإسلام، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً في ذلك، لهذا فقد وصفه الله بأنه على خلق كريم.
يقول ابن جبير: إن من عناية الله سبحانه وتعالى بمكة المكرمة، والبلد الأمين، أن قبائل من جبال السراة، واليمن يقال لهم «السرو» وهي مضافة لسراة الرجال، كما أخبر ابن جبير بذلك أحد رجالات اليمن يعرف بابن أبي الصيف، فاشتق الناس لهم هذا الاسم من اسم بلادهم، ويذكر ابن جبير أنهم قبائل شتى من بجيلة، وسواها.
ويذكر أنهم يستعدون للقدوم إلى مكة قبل انطلاقهم إليها، حيث يجمعون بين نية العمرة والميرة، مما تنتجه البلاد من أطعمة، كالحنطة والذرة وسائر الحبوب، إلى اللوبية ودونها، ويجلبون السمن والعسل والزبيب واللوز، فتكون هذه الميرة مزيجا بين الطعام والإيدام والفاكهة، وهم يقدمون إلى مكة في مسيرتهم تلك راجلين أو راكبين على جمال، تحمل أمتعتهم، وميرتهم، وتحمل الأثرياء منهم، وربما العجزة أيضاً، وأعدادهم بالآلاف، وعندما يحلون ببلد معين في طريقهم، فإن سكان تلك البلاد يرغدون لتوفر الأرزاق والأطعمة، والبيع والشراء وترخص الأسعار، فيصبح في مقدور غير ذي اليسار الحصول على بعض من الطعام، بقليل من المقايضة ببعض الأقمشة، وعندما يحلون بمكة المكرمة، فإنهم يبدأون ببيع بضاعتهم التي يسميها ابن جبير ميرتهم، وفي سورة يوسف عليه السلام: «ونمير أهلها ونزداد كيل بعير»، ذلك كيل يسير» وفي الغالب فإنها تطلق على المواد الغذائية. في تعامل أهل السراة الأكارم، مع أهل مكة شرفها الله لا يأخذون ديناراً ولا درهماً بل عن طريق المقايضة بالبضاعة، فيقدم أهل السراة الأطعمة، بينما يعوضونهم أهل مكة عنها بالأقمشة، والملاحف المتان، والأقنعة، وما أشبه ذلك، مما يلبسه ويستخدمه الأعراب، وهكذا يجلب الله لهذا البلد الكريم ما يحتاجه من غذاء مقابل تلك البضائع التي يحصل أهل مكة عليها من خلال تجارتهم مع الحجاج الآخرين، ورحلاتهم إلى الشام، واليمن، ونجد، وغيرها.
هؤلاء السرو يرون أن في ذلك بركة، لهذا فإنهم يستعدون قبل قدومهم، وإذا حدث منهم غفلة أو تأخير، بسبب الطقس أو نحوه، فإن النساء يجتمعن، ويخرجنهم، لأنهن يربين، كما يرى الرجال أن عدم جلب الميرة إلى مكة يقلل البركة، وربما تموت المواشي بدءا أو أن يحل الجدب ببلادمهم، لهذا فهم يرون البركة في الذهاب إلى مكة بالميرة وللعمرة، لتزيد البركة والخير للجميع.
وبلادهم كا يقول ابن جبير خصبة متسعة، كثيرة التين والعنب، واسعة المحرث، وافرة الغلات، وهي كذلك- والحمد لله- حتى يومنا هذا. ويقول ابن جبير: إن أهلها عرب قحاح جفاة، أصحاء، صرحاء فصحاء، لم تغذهم الرقة الحضرية، ولا طبعتهم السير المدنية، ولا سددت مقاصدهم السنن الشرعية، فلا تجد عندهم من أعمال العبادات، سوى حسن النية، وهذا قول ابن جبير أما أنا فأظن، أنه قد بالغ في قوله فعندهم علماء وفقهاء في ذلك الزمان، يفقهون العامة. ويقول ابن جبير: وهم من صدق نيتهم، وعمق إيمانهم إذا طافوا بالكعبة المشرفة يتطارحون، متعلقين بأستار الكعبة تطارح البنين بالأم المشفقة، ثم تتصدع ألسنتهم بأدعية تتصدح لها القلوب، وتنحسر لها الأعين الجوامد فتصوب، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم، مؤمنين على أدعيتهم، لكن لا أحد يستطيع أن يطوف في وجودهم، ولا يوجد سبيل لاستلام الحجر، يسيرون مترابطين كأنهم مربوطين بسلاسل.
كما نقل ابن جبير طريقتهم في الصلاة، وذكر أموراً لا أعتقد أنه مصيب في بعضها، ووصف سرعة ركوعهم وسجودهم، وغير ذلك مثل التسليم والالتفات وغير ذلك، وليس من المستحسن إيرادها، لاعتقادي ان فيها شيئا من المبالغة.