محمد سليمان العنقري
باتت صناعة أسواق المال -إذا صحت التسمية- معقدة وواسعة وأحد أهم قنوات ضخ الاستثمارات، كما أنها تعد من أفضل البيئات للعمل، نظير الدخل المرتفع الذي يحصل عليه المنتسبون للمؤسسات المالية ويبلغ حجم أسواق المال من حيث القيمة لأكبر عشر أسواق نحو 84 تريليون دولار أمريكي أي ما يعادل حجم الناتج الإجمالي العالمي، رغم أن هذه البورصات تمثل الدول التي تنتمي لها هذه الأسواق نحو 60 في المائة من إجمالي الناتج العالمي وهذا يعني أنه لو تم حصر قيمة جميع بورصات العالم بما فيها السلع والعملات وعلى رأسها الرقمية فسنصل لأرقام فلكية تعادل بضعف أو اثنين على الأقل لحجم ما ينتجه العالم ومما لا شك فيه أن هذا الإقبال على الاستثمار في الأسواق المالية يأتي بدوافع عديدة منها سهولة التعامل معها والحلم بسرعة الثراء ومغريات عديدة تطغى على أي مخاطر، فالمتعاملون يرغبون بالمغامرة خصوصاً المضاربين.
ولا نذكر جديداً إذا قلنا إن عاملي الخوف والطمع هما ما يحركان قرارات المتعاملين اليوميين أو قصيري الأجل مع الأسواق ونسبتهم تعد الأكبر لكن مهما حدث من خسائر لهم تجدهم يكررون بعض الأخطاء بعد أي شعور بنشوة الربح إذا امتد لفترة تكون الاتجاهات صاعدة حتى ينسى تماماً أن هناك اتجاهاً معاكساً وهو أمر طبيعي فلا يمكن استعادة الزخم للأسواق إلا بجني أرباح أو تصحيح لتعاود بعدها الصعود خصوصاً مع الدورات الاقتصادية الصاعدة، كما يعيشه العالم اليوم بعد جائحة كورونا، إلا أن ما يلفت النظر هو التقلبات الحادة التي تشهدها أسعار العملات الرقمية والأهم نظرة المحللين عالمياً لها خصوصاً ممن يتعاملون بها أو يديرون منصات تداول لها كما أن تدخل بعض الأثرياء عالمياً كأيلون ماسك بتصريحات باتت تحرك هذه العملات يثير أسئلة عن انتفاعهم من هذه التصريحات فهو أعلن استثماره بإحدى هذه العملات عبر شركته تيسلا ودعمها بقبول شراء السيارات بهذه العملة «البيتكوين»، لكنه عاد ليتراجع عن ذلك بعد أن حققت نحو 80 في المائة ارتفاعاً من لحظة إعلانه الأول عن الاستثمار بها وحجته بالتراجع أن تعدينها ليس صديقا للبيئة نظير كمية الكهرباء المولدة من وقود أحفوري التي تستهلك بتعدينها فهل كان يجهل ذلك عند توجهه للاستثمار بها! ومن المؤكد أنه يعلم تماماً كم تستهلك من الكهرباء حيث يصل حجم الطاقة التي تحتاجها إلى ما يعادل الاستهلاك السنوي لدولة مثل الأرجنتين التي يبلغ تعداد سكانها 45 مليون نسمة.
وعلى الصعيد الآخر هو حجم التقارير والتحليلات التي تصدر كل يوم لتؤيد التعامل المضاربي أو الاستثماري بهذه العملات وتقدمها كمستقبل عملات العالم ووسيلة الدفع المقبلة بدون منازع ومن المعروف بالأسواق أنه عندما تتشكل الفقاعات يكون وقودها عاملي المال الذي يضخ من خلال زيادة عدد المتعاملين وأيضاً «تقارير التخدير» التي تبث بكم هائل عن أنه لا يوجد سبيل للثراء ولا مستقبل بالاستثمار إلا بهذه السوق أو السهم أو القطاع حدث ذلك في فقاعة الدوت كوم في بداية الألفية في السوق الأمريكي ناسداك وغيرها من الفقاعات التي اكتشف الناس بنهايتها حجم الوهم الذي سوق عليهم، فصحيح أن الدوت كوم باقي كنشاط، لكن الشركات التي بيعت على الناس كثير منها لم يكن يملك أي مقونات البقاء وفي العملات الرقمية لا بد من الانتباه إلى أنه لا مرجعية لها وإذا تبخرت فلا توجد جهة يمكن أن تعود لها لتطلب تعويضاً أو لتعرف حتى مصيرها فهي بعالم افتراضي وكثير من قادة البنوك المركزية بالعالم يحذرون منها كرئيس الفيدرالي الأمريكي باول الذي قال: الأصول مرتفعة، لكنه اعتبر أن السياسات النقدية المرنة تبرر هذا الارتفاع لكنها إشارة تحذير وأيضاً محافظ البنك المركزي الإنجليزي الذي قال: «إن أولئك الذين يشترون العملات المشفرة يجب أن يكونوا مستعدين لخسارة كل أموالهم العملات الرقمية ليس لها قيمة»، فهي لا تملك صفات العملات ولا الأصول ولا المعادن الثمينة كالذهب ولا مرجع فعلي لها ولذلك ما ينطبق عليها من تسويق داعم للتوجه للمضاربة بها هو نفسه ما تم في أسواق الأسهم وغيرها وحتى العقارات عندما تدخل مرحلة الفقاعة.
ليست دعوة للبيع أو الشراء وإنما للتفكير والتذكير بتاريخ الأسواق، فقد حقق الكثير كما يقال أرباحاً كبيرة من العملات الرقمية وبلغت قيمتها السوقية تريليوني دولار وعددها بالآلاف والبيتكوين لوحدها تستحوذ على نصف هذه القيمة وما زال هناك توقعات تقول إنها ستتجه لأرقام أعلى بكثير، لكن كل ذلك قد يتبدل بتغير الأساسيات التي تدعم المضاربة والتوجه للأسواق عموماً إذا ارتفعت أسعار الفائدة أو تم سحب أو تخفيف التيسير الكمي من الفيدرالي الأمريكي أو صدرت إجراءات تنظيمية تحد من توجه السيولة للمضاربة بها فكل شيء جائز إذا أصبح التنظيم ضرورة وعندها كل ما يقال من مديح لها سيختفي وتبقى كالجمرة بيد المضاربين يتقاذفونها حتى لا ينكوون بحرارتها، هذا ما قالته الأسواق دائماً ولا أحد يمكنه الجزم متى ستنفجر الفقاعة، فالعملات الرقمية ستبقى كمفهوم، لكن بكل تأكيد التي ستخضع لتنظيم أو ما تصدره الدول رقمياً لعملاتها السيادية.