د.فوزية أبو خالد
لطالما مضّني السؤال كيف يستطيع المجتمع الدولي على مستوى جمعي وكيف يستطيع إنسان بين جنبيه قلب وفي رأسه عقل على مستوى فردي أن يغمض له جفن، وأن تطيب له لقمة، وأن يعيش يوماً عادياً أمام مجازر الطفولة والإنسانية الوحشية المنقولة حية تقطر دماً وقيحاً على الهواتف الذكية وعلى شاشات عريضة عبر القارات في القرن الواحد والعشرين الذي لم يعد فيه مجال (معرفي أو اتصالي) لدولة أو لإنسان ليقول، (لم أعرف بما يحدث).
وحقيقي لا أدري كيف نعيش بالعالم العربي والإسلامي هذه الأيام الفضيلة أيام العيد ولم نمزق ثيابنا بأسناننا ونحن نرى الذبح البواح للأطفال حياً على الشاشات ونرى الاعتداءات على المصلين المسالمين بالمسجد الأقصى، ونرى جيش الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني التوسعي يستبيح القدس، ويمحو حي الشيخ جراح ويرمي بسكانه في العراء بكل جبروت إجرامي ويعمم العنف على المواطنين الفلسطينيين بهدم كل بيت يقيمون تحت سقفه وباقتلاع كل شجرة يستظلون بها، وباستهداف كل فلسطيني لا يزال يقيم على أرضه بالقتل من الطفل الرضيع للشيخ ومن الشباب للنساء ومن ألعاب الأطفال لدفاتر المدرسة.
ولهذا فإن هناك خشية مشروعة اليوم «من أن يألف» المواطن العربي مشهد العنف الإجرامي السياسي والعسكري على الأرض العربية ويتعود به على تجرع كأس مهانة الاستباحة لأرضه ومقدساته من قبل القوى الطامعة باقتطاع أجزاء عريضة من المنطقة أو بالسيطرة والسيادة الإقليمية عليه.
ومما يفاقم هذه الخشية أنه بعد السنوات العشر الأخيرة التي شاهدنا وعشنا فيها الإجرام السياسي والعسكري المنظم لمليشيات النظام الإيراني الثيوقراطي الطائفي بإيران يستميت في مضاهاة تاريخ العنف الصهيوني بحرق مدن عربية نابضة وحرق سكانها أحياء في العراق وسوريا ولبنان واليمن مثلما جرى تاريخياً ويجري اليوم على أرض فلسطين أن يؤدي ذلك لمغبات خطيرة إن لم نَقِس المحاق الذي يتهدد المنطقة العربية سواء المتمثل في النظام الإيراني بعدوانيته الطائفية وأطماعه الاستحواذية أو المتمثل في النظام الإسرائيلي بصهيونيته العنصرية ودولته الاستعمارية التوسعية أو سواهما من قوى الهيمنة بمقياس الرشد والضمير.
وقد ظهر اليوم إبان هذه الكارثة الإبادية الراهنة التي تعرض لها مدنيون عزل بالقدس وبقية الأراضي الفلسطينية، بداية من حي الشيخ جراح، عدة بوادر سلبية لما يمكن أن يؤدي إليه التآلف والتطبيع مع أوضاع أطماعية وحشية وغير طبيعية. بما يتمثل بعضها في التالي:
أولاً: هناك مغبة المفاضلة بين (عدو وعدو) على ما في ذلك من خطورة استراتيجية وتكتيكية معاً، فليس هناك مجال أن نفاضل بين (من يحاربنا وبين من يحاربنا) وليس أمراً وارداً أن نقارن بين أيهما يريد بنا شر قتلة وأيهما يريد أن يتسيد المنطقة على حسابنا، وكلاهما في الواقع المعاش يريد ذلك بل يعمل عليه.
ثانيًا: هناك مغبة الوقوع في مستنقع تصفية حسابات مع من خان أو تخلى ومع من أنكر أو تجنى في العلاقة العربية- العربية في هذه اللحظة الحرجة من الجرح. فمع أن من الصحي وضع النقاط على الحروف والمصارحة النقدية الصارمة وعدم تمييع الحقوق ونكران الجهود التعاضدية في العلاقات العربية الفلسطينية، ومنها التصدي النقدي العقلاني لمحاولات التنمر المخجلة على كل ما هو سعودي وخليجي، فإن ذلك لا ينبغي له أن يكون بقبول وجود «كومبارسات مرتزقة» بين الأطراف ذات العلاقة تخلط الأوراق وتتبادل الشتائم والتهم بذلك الشكل المنحط الذي ظهر على السوشل ميديا. ولا يقل أهمية وضرورية في هذه النقطة ألا يأتي أي موقف نقدي من «الانتهازية السياسية» في إطار تبريري «لعدوان العدو» البواح علينا وعلى أهل فلسطين باعتبار أن العدوان عليهم في حقيقته وكما هو موثق في التاريخ الصهيوني مجرد مقدمة للمشروع الصهيوني في المنطقة. والمثل يقال عن أطماع المشروع التوسعي للنظام الإيراني.
ثالثاً: هناك مغبة لا تقل خطورة وهي مغبة التشفي في شعب فلسطين لمعاقبة قيادات فلسطينية ظالمة في تحالفاتها المعادية لأمتها وظالمة في علاقتها بالشعب الفلسطيني نفسه. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن خطورة هذه المغبة تتحول إلى نذالة مخجلة حين يُقول الشعب الفلسطيني، على لسان حفنة لا تمثله بل تمثل سوء الأدب وسوء الإدارة السياسية، أقوالاً من الفحش السياسي والشتائم المنحطة التي لا تجر مجاراتها إلا إلى تبادل السفه الأخلاقي والتعصب الأيديولوجي في الوقت الذي نحن في أشد الحاجة إلى مقاومة المكاره بالمكارم، وإلى مجابهة تلون الباطل بالثبات على الحق، ولو تخلى عنه بعض مدعيه لأنهم في حقيقة الأمر ليسوا أصحابه.
هذا ليس موقفاً رومانسياً، وإن يكن فكل المواقف المبدئية تاريخياً إلى اليوم لا يمكن إلا أن تكون إنسانية بما في الإنسانية من نزعة الوجدان والعقل والضمير.
ولنسمي الأشياء بأسمائها، فليس من العقل أن يعتبر التعبير عن وقفة حق مع الشعب الفلسطيني في الاحتجاج بكلمة عادلة ليس إلا على تكرار محنة فلسطين اليومية بمواجهة شعب أعزل لعنف جيش احتلالي استيطاني صهيوني منظم، موافقة على مواقف قيادات الشعب الفلسطيني سواء في تحالفها الأثيم مع نظام إيران الطائفي وتمجيدها لقائد ميليشيات القتل العربي (هولاكو سليماني لا رحمه الله).
ويجب على كل ذي عقل أن يعي أن تأييد حق الشعب الفلسطيني في أرضه ليس تأييداً لهذا الفصيل أو ذاك من فصائل القوى الفلسطينية المتناحرة حتى فيما بينها من الهرم الرئاسي إلى حماس أو سواها.
كما أن الوقوف مع مطلب العدل لفلسطين لا يشكل بأي حال من الأحوال نقيضاً لمطلب التنمية في كل بلد عربي ولموقف الاعتزاز الوطني ببلادنا ومواقفها النزيهة تجاه الحق الفلسطيني.
وقد كتبتُ رداً على من استكثروا على بنات وأبناء المملكة وقفة معهودة في رفض الإرهاب العسكري الإسرائيلي رسمياً وفي الوسط الثقافي وفي عموم الشارع السعودي تاريخياً وإلى اليوم إبان هذه الكارثة الإنسانية لشهر رمضان وأيام عيد الفطر، وكذلك رداً مشدداً على من أرادوا توظيف كلمة حرة شريفة لصالح مواقفهم الانعزالية «لا تعنيني حماس بل أدينها وسائر باعة النفس البشرية التي حرم الله بأثمان رخيصة، ولكن يعنيني جداً وأدين بشدة غيلة الاحتلال الإسرائيلي لأطفال فلسطين وللمدنيين بوحشية وتشفٍّ وتجزع كل ضمير حي. كما أنني لا أتورع عن القول بقوة بأنني أرفض ترويع مصلي الأقصى وحصار القدس وتجريف المدن وسرقة الأرض وطمس هويتها العربية الإسلامية، كما أرفض اختطاف كلمتي لصالح أي فصيل من فصائل الباطل المتلبسين تضليلاً بالهوية اللبنانية اليمنية الفلسطينية أو سواهم وكلها براء منهم.
وقد كتبت أيضاً وكتب كل ذي عقل رشيد في الخليج وفي العالم العربي، بل في العالم الغربي والعالم أجمع بالخط العريض، أن الوقوف مع «القضية الفلسطينية» ليس كرماً مع فلسطين ولا تكرماً عليها فهو موقف مبدئي من أساسيات المواقف الإنسانية في رفض الظلم والاعتداء وفي مقاومة لا بد منها لعقيدة احتلال الأرض التوسعي الذي تقوم عليه إسرائيل بمخططها التمددي الذي لا تخفيه من النيل إلى الفرات.
كما أنني كتبتُ وكتب كل ذي عقل أن الإنكار على سلوك المليشيات الإرهابي ممثل للأطماع التوسعية الإقليمية لنظام إيران الطائفي يجب ألا يقل عن الإنكار على دولة إسرائيل ذات العقيدة الصهيونية التصفوية التوسعية أطماعها في أرض فلسطين وأبعد.
ومما يكتب اختصاراً للموقف «إن الانحياز المبدئي مع فلسطين ضد الهجوم الوحشي لنظام دولة إسرائيل الاستعماري الاستيطاني على القدس وأرض فلسطين كافة لا يعني حياداً مع نظام إيران العدواني ولا تغاضياً عن جرائم جيوبه على أرض لبنان وسوريا والعراق واليمن وتعدياته المخزية على الأراضي السعودية، كما أنه لا يعني صفحاً عن تجار السياسة والإعلام فلسطينيين وسواهم.
والحقيقة أنني لم أكتب هذا الكلام كصك براءة ولا إرضاء أو إغضاباً لأحد، ولكنني أكتبه انحيازاً صريحاً لموقف العقل والضمير والقلب السليم في حمل أمانة الكلمة، وفي مطلب مقاومة الأطماع بالأرض العربية، ورفض الركوع لقوى الهيمنة، أياً كانت هوياتها الشوفينية، فمن حق الإنسان على هذه البسيطة أن يعيش كريماً عزيزاً في وطن حر يحترم العالم سيادته وحدوده ومطالبه المشروعة في العيش والعمران والتقدم بسلام على أرضه.