عبده الأسمري
تعددت الأسباب والموت واحد وتمددت المسببات والرحيل موحد.. نتفاجأ يومياً بوفاة هنا ونهاية هناك في تداعيات مختلفة وظروف متباينة.. ليبقى الأمر بين «حيز» الغيب و»فاجعة» الحتمية.
عندما نصعق بموت صديق أو وفاة عزيز وما أكثرهم في محيط معارفي خلال العامين الأخيرين فإننا في مواجهة شرسة مع الأحزان وفي معركة محتدمة مع الآلام حينها نشعر بفناء هذه «الدنيا» وانتهاء هذه «الحياة» وسط «عمر» مقدر و»أجل» معلوم.
رصدت ذاكرتنا حكايات «الموت» التي كانت تمر بفصول متتالية وعاشتها قلوبنا وعايشتها عقولنا ونحن أطفال عندما كان التوجس يغتال أنفسنا الغضة ونحن نشاهد مصابيح السيارات ونسمع أصواتها في طرق قرانا الترابية فنتأكد حينها أن حركة سيارة تقطع سكون ليلنا تعني وجود أسباب ثلاثة لا رابع لها فالأول مفرح وهو قدوم مسافر من مدينة بعيدة أما الاثنان الآخران فهما محزنان حتماً فإما إيصال مريض للمستشفى بعد أن داهمه الوجع وإما «مرسول» شؤم يتنقل بين المنازل ويزلزل «سكينة» الأهالي لينقل إليهم خبر موت لأحد الأشخاص في إحدى القرى المتجاورة التي ترتبط جميعها نهاراً بعمومية الفلاح والكفاح في اقتران الطبائع وتترابط ليلاً بطمأنينة السلام والوئام في أحضان الطبيعة.
مرت السنون واكتمل «المشهد» الأليم عندما اختطف الموت قريباً أو جاراً ورأينا معابر «الجنائز» بين مسارب القرية وشاهدنا امتلاء المقبرة الحجرية الوحيدة بالبشر والحجر والطين وظل صوت «الفؤوس» وهي تحفر التراب أول «معالم» الخوف المختلط بالدهشة التي وزعناها كأسئلة يومية أمام آبائنا وكبرائنا حتى وصلنا إلى خطوة «اليقين» إننا أمام «نهايات» لا تستثني أحداً وأن أولئك «الشيوخ» الذين يغالبون دموعهم بالمقابر ليسوا سوى «رجال» هزمتهم عبرات الفقد.. وإن تلك النسوة اللاتي يلتحفن السواد ويتوشحن الحداد ما هم الا «محتسبات» على عتبات «الصبر» وأن الصبية الذين كان يوصلهم والدهم إلى مدرستنا قبل رحيله أصبحوا يأتون مع جارنا حيث باتوا «يتامى» في قاموس الفقدان و»أيتام» في موازين «الأبوة».
وعندما سمعنا عبارات «العزاء» حفظناها من مبتدأ الواجب ومبدأ الحق كجزء من ثقافة «إلزامية» علمتنا «أسبقية» الموت و»أحقية» التعازي..
كبرنا واتسعت مساحات «الأوجاع» تحت أقدار الموت.. وأصبحنا في «عراك» لا يحتمل «فجائية» الرحيل و»حراك» لا ينتهي من «فجأة» النهاية.. وظللنا نحصي أعداد «الراحلين» رغماً عن «النسيان» ونتذكر قصص الصابرين كوسائل لصناعة «الأمان».
ارتبط الموت بدعواتنا وظلت الحياة في ادعاءاتنا وبقت المواجع في استدعاءاتنا كثالوث تظهر فيه العبرة والغفلة واللوعة معاً في مشاعر مختلطة من الاستذكار والنسيان والسلوان. لنبقى متأرجحين بينها حتى نصدم برحيل عزيز فنرتمي في غيابت «الغم» فيأتي جبر «الجبار» فنجول في دؤوب الحياة باحثين عن «أرواحنا» التي قد تتمرد علينا بمجرد «اجترار» الذاكرة لنلجأ إلى ميادين التعايش بحثاً عن «سلوان» غائب.
حكايات «الموت» متشعبة ومتشبعة بعضها يسكننا كوقائع متجددة رابضة تحت «رماد» نسيان مؤقت لا يلبث أن يشتعل بمجرد تجدد المعاناة في «استذكار إجباري» أو «اعتبار اختياري» أو قصة موت جديدة أو حادثة فقد حديثة فنظل حينها في نزاع بين الموت والحياة وصراع بين السقوط والنجاة.
بين بصائر الدنيا والحياة ومصائر الآخرة والموت يعيش الإنسان وسط مراحل من القدر يتنقل خلالها من مبتدأ «الأمنيات» إلى خبر «النهايات» ويتشبث خلالها بجهاد «العيش» ومجاهدة «التعايش» ويتباهى فيها بعزة «النفس» واعتزاز «الذات» ليسير في دروب «العمر» مائلاً نحو «الدوافع» ومتجهاً حيث «المنافع».
سيجني الإنسان بعد رحيله أرباح الوديعة التي يبقيها قبل مماته أثناء وحدته في قبره ووحشته في برزخه وسيجد أرصدتها في حسابه الأخروي في صدقات وحسنات وقطاعات وصالحات أودعها بيقين بالغ لينال نتائج إيراداتها في صحائف أعماله وصفحات أفعاله.
الحياة قصيرة والعمر رحلة بين خطوة بداية ونقطة نهاية والسبق في ذلك وفق «الخواتيم» ويبقي الانسان بعد رحيله ودائع في حياته يتركها في «دعوات» صادقة من «آثار» ناطقة و»مآثر» لاحقة من «صفات» سابقة لذا فإن العبرة والاعتبار بما يخلد كل إنسان في دنياه من أثر وتأثير وبما يترك من ذكر وتذكير في علمه وعمله.