د.جيرار ديب
تحدّث البروفيسور ماكس ماينورج الأستاذ بمعهد الدراسات الاستراتيجية التابعة لكلية الحرب بالجيش الأميركي وأحد أعمدة المخابرات العسكرية السابقين، في محاضرته عن حرب الجيل الرابع، التي تعتمدها الولايات المتحدة لاستهداف العدو وإنهاكه وإسقاطه مسلوب الإرادة دون اعتماد الضربة العسكرية، أو الاستعمار التقليدي.
تختلف حرب الجيلين بالأدوات المعتمدة والمستخدمة فيها، وبطريقة استهداف العدو. لذا يرى الخبراء، أنّ حرب الجيل الرابع تحاكي التطور التقني والتكنولوجي الحاصل، حيث تخرق الدولة العدو، عبر وسائل التواصل من خلال التطبيقات كالفيسبوك، والتويتر..، وترتكز على قوة نقل وسرعة المعلومة، للتأثير على الذهنية المستهدفة، وتطبّق في زمن العولمة. فيما حرب الجيل الثالث لم تزل تقليدية، تعتمد على قوة الدولة العسكرية، في تحقيق توسع النفوذ والانتشار عبر ضرب الدولة، وحثّها على الاستسلام.
المتابع لتحركات الجيش الأميركي في العالم مع إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، واليوم مع الرئيس جو بايدن، يلمس سياسة إعادة التموضع، لا سيما في الدول التي تشهد سخونة على صعيد الصراعات الدولية، وتحديدًا العراق وأفغانستان. هذا بالوقت الذي تستند فيه روسيا على قوة ساعدها العسكري، التي ترجمتها في سوريا، وأوكرانيا، وجزيرة القرم سابقًا، وليبيا، عبر مجموعة فاغنر وهي منظمة روسية شبه عسكرية، وقد وصفها البعض بأنها جناح خاص للجيش الروسي.
تعتمد روسيا في حربها، بعد استيقاظ الدب الروسي في جزيرة القرم، على الجيل الثالث من الحروب، أي على قوتها العسكرية، والتهديد النووي، الذي ورثته من القيادة السوفياتية السابقة. إنها حرب تدميرية تستخدم فيها القدرة العسكرية المطلقة، فسياسة الأرض المحروقة التي اتّبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الشيشان، طبّقها في ضرب المعارضة السورية في مناطق نفوذها.
حرب الجيل الثالث مكلفة، وتحتاج دائمًا لميزانيات حرب ضخمة، لهذا تحتاج روسيا دائمًا إلى احتلال مناطق غنية بالطاقة، كالسواحل السورية، وجزيرة القرم، وإلى مواقع ذات نفوذ جيوعسكرية كإغلاقها لثلاث مناطق في البحر الأسود أمام السفن الحربية الأميركية. حرب الجيل الثالث، حرب استنزافية، ترتكز على الوقت والحسم السريع في المعارك الميدانية المرتبطة في الزمان والمكان المحددين. غاية هذه الحروب إسقاط الدولة، وشلّ مؤسساتها، وتدمير بنيتها التحتية عبر القصف المركز، وأسر مسؤوليها، وجعلهم رهائن القرار لديها.
بالعودة إلى محاضرة ماينورج، يعتبر البروفيسور أنّ الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على الجيل الثالث من الحروب، بل على الجيل الرابع، وهي التي تعتمد على إفشال الدولة، وزعزعة استقرارها، ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأميركية. هذه الحروب عكس سابقاتها، فهي لا تعتمد على تحطيم المؤسسة العسكرية، ولا القضاء على مقدرات الدولة وبنيتها التحتية، ولا ترتكز على القوة العسكرية لفرض الهيمنة، بل على إنهاك إدارتها ببطء بعد نشر الفوضى في أرجائها من خلال استخدام قوات غير نظامية كالجمعيات غير الحكومية، والإعلام ووسائله، وخنق الاقتصاد، وضرب العملات الوطنية. أما بالنسبة إلى عنصر الوقت فهو على المدى المتوسط والطويل، والمهم أنّ العدو في هذه الحرب لا يستيقظ إلا ميتًا.
لهذا تساءل ماينورج: «ما الذي أسقط جدار برلين؟» الطائرات، الدبابات؟ بالطبع لا، إنه الاقتصاد المارك الألماني. لذا نتساءل اليوم مع ماينورج مَن الذي سيسقط أولاً: الروسي عبر حرب الجيل الرابع؟ أم الأميركي عبر حرب الجيل الثالث؟
صحيح أنّ الروسي اليوم يعتمد على دبلوماسية باسمارك المستشار الألماني، لتحقيق الإمبراطورية المنشودة على الدم والنار، وفرض نفوذه في مناطق الصراع، الأمر الذي يسمح له بإطلاق التهديدات المباشرة بالتدمير والإلغاء لدول تقف عائقًا أمام طموحاته الجيوسياسية؛ لكنّ حرب الجيل الرابع، التي تعتمدها الإدارة الأميركية في حربها مع روسيا، ترتكز على استنفاذ المقدرات الروسية العسكرية والاقتصادية في الداخل والخارج لروسيا الاتحادية.
حدّد الرئيس جو بايدن روسيا، بأنها ألدّ أعداء أميركا وأخطرها على الأمن القومي. فبادر إلى فتح الحرب من نموذج الجيل الرابع، من خلال مطالبة روسيا بالمزيد من الحرية، والناشط نافالني نموذج، فسخر الإعلام للإضاءة على قمع الأمن الروسي لكل من يعارض سياسة الرئيس بوتين. كما عمد إلى فرض عقوبات اقتصادية على مسؤولين روس، وشركات روسية، فقام بالضغط على ألمانيا لوقف إمداد أنبوب السيل الشمالي لنقل الغاز الروسي إلى العمق الأوروبي عبر شركة غازبروم الروسية. كذلك، يسعى لسحب عسكره من أفغانستان، لنشر الفوضى في آسيا الوسطى، وحثّ الروسي على التدخل تمامًا كما فعل الاتحاد السوفياتي سابقًا، وسقط في الوحل الأفغاني. كما قام بدعم أوكرانيا، ونشر بطاريات الصواريخ الباليستية في أوروبا، ما يهدد العمق الروسي. كذلك أعاد بايدن، الدور الرئيسي لحلف الناتو، الذي ترى فيه القيادة الروسية المنافس الأساسي لقواتها العسكرية.
خطوات كثيرة تعتمدها إدارة بايدن، الهدف منها إضعاف القدرات الروسية على التوسع، معتمدةً لتحقيق أهدافها على عامل الوقت لاستنزافها. هذا ما يجعل اللاعب الروسي أمام تحدٍّ حقيقي، لاسيما وإنّ هناك نقاط ضعف تعيق الطموح الروسي في إعادة إحياء القيصرية. بالمقابل، يأخذ الرئيس بوتين بنصيحة المستشار الألماني بسمارك، الذي اعتبر أنّه في حرب الدول والنفوذ لا تنفع الدبلوماسية، بل اعتماد الأخذ وتحقيق النفوذ بالحديد والدم. فلمَن سيكون النصر؟ للجيل الثالث مع القيادة الروسية، أم للجيل الرابع مع الإدارة الأميركية؟