عبد الرحمن بن محمد السدحان
* سألني سائل ذات يوم: كيف تكونت في (عقلك الباطن) وأنت في ربيع طفولتك (نطفةُ) الشغف بالأدب حُلمًا، تحول فيما بعد إلى الاهتمام بالقراءة أولاً ثم الكتابة لاحقًا؟
* * *
* وجاء الرد بما يشبه الخيال، لخصته في التالي: لم أكن أحلم في صغري وأنا أمارس (شقاء) الفلاحة في مزرعة جدي لأمي (رحمهما الله) أو أرعى الغنم في سفوح الجبال المجاورة أن يأتي يوم أمارس فيه الكتابة لأنني في تلك السن المبكرة لم أكن أفقه أبجدية الكتابة ولا أدبها!
* * *
* كانت علاقتي بالدراسة الابتدائية لا تنبئ برغبة صادقة للانتظام بها بسبب غياب الوعي التربوي لدى معظم المدرسين، وتجسد ذلك في التمسك بآلية (العصا) وسيلة للتلقين! الأمر الذي أرغمني لهجرة المدرسة والعودة إلى الجبال راعيًا للغنم أو إلى المزرعة ساقيًا لنباتها! وبمعنى آخر، كنت (أجد نفسي) في رفقة الغنم أبني الحصون الصغيرة في القفر الواسع، أو أسقي الزرع وأستمتع بخرير الماء!
* * *
* وإحقاقًا للحق لا بد لي من القول إن (أمية التعليم) قبل ستة عقود أو أكثر كانت الصراط الذي سار عليه المدرسون في تلك الحقبة البعيدة من الزمن، فهل هم ملومُون إن (فشلوا) في مهمتهم، ومارسوا (اجتهادًا) أساليب في نقل المعارف إلى طلابهم معتمدين على الترهيب لا الترغيب في المعرفة؟!
* * *
* وبمضمون أوسع، كانت هناك معادلة معقدة اشترك في صياغتها ظروف وأشخاص، وضعني القدر أمامهم، وقد تعاملت معهم كرًّا وفرًّا، ومن نماذج السلوك التي شهدتها داخل البيت والمدرسة وخارجهما سواء وعبر مراحل تكوين حياتي، تَعلّمت من كل هذه الظروف مجتمعةً ما ساعدني بشكل أو بآخر في تشكيل جزء من شخصيتي ولو بعد حين!
* * *
* وبمعنى آخر، فإن الصعوبات التي واجهتها في مطلع حياتي غرست أظافرها في تجاويف وجداني، وأوجدت لدّي شفافية خاصة جعلتني في مراحل متتالية من العمر (أتمرد) على غموض هويتي وغياب الهدف في حياتي!
* * *
* حاولت أن أنتزع أنياب تلك (الهوية الطارئة) خارج جدران الصمت، وأصنع منها شيئًا ذا بال! كان لدي إحساس دفين بأنني لا بد أن أكوّن من نفسي شيئًا أنتفع به وأنفع من خلاله أهلي ووطني وقد انعكس هذا الإحساس إيجابًا بنيل الشهادة الابتدائية من المدرسة النموذجية بجدة عام 1375هـ، بتفوّق، ثم انتقلت مع الأسرة إلى الرياض، والتحقت بمرحلة الكفاءة، وحصلت بعون الله بعد ثلاث سنين على شهادة المرحلة المتوسطة بتفوق أيضًا، ثم أكملت مشوار الثانوية العامة، القسم الأدبي في مدرسة (اليمامة) بالرياض وأحرزت بفضل من الله المركز الأول على مستوى المملكة، واستمرت هذه المسيرة في المرحلة الجامعية بعد ابتعاثي إلى أمريكا، والحمد لله أولاً وآخرًا.
* * *
* وحين أعودُ بذاكرتي إلى تلك الأشواط في حياتي، أكتشف أنه كان هناك سباق بين شخصيتين: شخصية الطفل الخدوم المطيع لإرادة وليّه الراغب في رضاه، والشخصية الأخرى داخل جدران المدرسة والجامعة، أمارسُ من خلالها صخب التلاحم الاجتماعي والأدبي مع الجميع!