د.جيرار ديب
هو ليس الجنرال غورو، كي يجمع اللبنانيين من مختلف انتماءاتهم وتياراتهم في قصر الصنوبر، ويزفّ إليهم قيام دولة لبنان الكبير، الذي رسمته فرنسا مع بريطانيا في اتفاقية سايكس بيكو، مع إضافات جديدة لأقضية إلى متصرفية جبل لبنان، فيصفّق ويهلل له جميع الحاضرين، فيما تبرق عيناه لما يعتبره إنجازًا.
وبالطبع، ليست الظروف مشابهة لما كانت عليه منذ مئة عام، حيث خرجت فرنسا منتصرة على أعدائها من الحرب العالمية الأولى، وكانت أميركا لا تزال تعيش عزلتها الدولية، وتنظر بتأمل إلى مستقبل بات قريبًا، تزيح فيه سطوة الفرنسي والبريطاني معًا، لتحلّ في الشرق الأوسط صانعة السياسات فيه، وتسحق كلَّ من تعتبره عثرة في وجه مصالحها.
نعم تغيَّر كلُّ شيء، إلا العقلية الفرنسية تجاه لبنان، فهي لم تزل تعيش أحداث الانتداب مع بلد لم يعد يحمل من الانتداب سوى اسمه. لم يعد لبنان، لبنان الأمس، فلا نسيجه الاجتماعي بقي على حاله، وتغيرت فيه الغلبة لطائفة تنظر إلى فرنسا بمنزلة الأم الحنون. كيف لا، والبطركية المارونية تقيم قداسًا سنويًا على نية فرنسا وكأنّ فرنسا لم تزل كاثوليكية، وهي التي نخر فيها الالحاد، مع الفيلسوف جان بول سارتر وفكره الوجودي. فهل ما زالت عين فرنسا على مسيحيي لبنان كما كانت يوم علَّق الدستور وألغت الانتخابات كي لا يكون على رأس الجمهورية سني؟ أم عين فرنسا على مصالح شركة توتال الفرنسية لاستخراج النفط والغاز من البلوكات البحرية، وعين أخرى على المرفأ الذي دُمِّر منذ أكثر من تسعة أشهر وإلى الآن لم يزل على حاله؟
ليست المرة الأولى التي يأتي فيها الزائر الفرنسي، رئيس دبلوماسيتها، الوزير جان إيف لودريان، فهو قد زار لبنان والتقى مسؤوليه، وحثّهم على الإسراع في تشكيل الحكومة، ودعاهم مرارًا وتكرارًا لعدم التفريط في مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كي تستطيع الدول المانحة إنقاذ لبنان قبل غرقه، كسفينة التايتنيك الشهيرة، ودون موسيقى.
لوَّح لودريان بفرض عقوبات فرنسية على المسؤولين اللبنانيين المعرقلين، ودعا من على منبر برلمان الاتحاد الأوروبي لدعم فرنسا، وملاقاتها في العقوبات علَّها ترهبهم ويسارعون لتقديم التنازلات في تشكيل الحكومة المنتظرة، ولكن دون جدوى. حاول الرئيس الفرنسي اللعب بالساحة اللبنانية، وعمل بنصحية سقراط، يوم قال: «عندما أكون في أثينا، أتصرف كالأثينيين». لهذا جمعهم الرئيس الفرنسي، وتحدث مع حزب الله، وحاكى كل المسؤولين بلهجتهم، ولكن قد فاته، أنَّ الكثير من اللبنانيين لبنانيون فقط على الهوية، أما انتماءاتهم فهي إلى الخارج، وأكثر من ذلك يطبّقون مصالح الدول الخارجية. ألم يؤكّد قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني، علي حاجي زادة، إنّ كل ما تملكه غزة ولبنان من قدرات صاروخية تمّ بدعم إيران، وهما الخط الأمامي لمواجهة إسرائيل.
قد يدرك الزائر الفرنسي كلَّ هذه العقبات والمطبات داخل الشارع اللبناني، الذي ينتظر مسؤولوه التسويات في المنطقة كي يبادروا إلى العمل.
على ما يبدو، فإنّ الزائر الفرنسي لم ينظر إلى الإتصال الذي حصل منذ وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى سدة الرئاسة مع الرئيس الفرنسي، على أنه ضوء أخضر للتصرف في لبنان، تحت غطاء أميركي بالمطلق. فمن سعى بالأمس القريب لزعزعة النفوذ الفرنسي في القرن الإفريقي، لن يتهاون معه في لبنان، لا سيما وإن حليفه الإسرائيلي له حسابات خاصة في المنطقة، وقد يعيد خلط الأوراق بضربة مباغتة لإيران، تجعل المنطقة تقع في أتون النار والدم.
لذا لن تحلّ الأزمة في لبنان، مهما هوّل وتوعد الزائر الفرنسي على المسؤولين، إلا بعد أن تأخذ أميركا ضمانات جدية من الجانب اللبناني حول نقاط أولوية عندها، وهي مسألة ترسيم الحدود التي تتعقّد يومًا بعد يوم، وتفكيك منظومة الصواريخ الدقيقة والموجهة التي يمتلكها حزب الله في لبنان. ومن اليوم إلى حين الاتفاق، سيبقى لبنان دون حكومة، وسيغرق في ظلامية الانهيار المالي والاقتصادي، وقد يتحول إلى فوضى أمنية، إلى حين حصول التسويات الكبرى في المنطقة، فيما سيظل الزائر الفرنسي يغرد وحيدًا.