د.سالم الكتبي
ليس سراً قلق دول مجلس التعاون تجاه الرؤية الاستراتيجية التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه الاتفاق النووي الإيراني، وليس سراً أيضاً أن العلاقة بين العواصم الخليجية وواشنطن ليست بأفضل حال في عهد الرئيس بايدن، على الأقل حتى الآن، ولكن تحليل المعطيات بدقة وموضوعية يقول إن المسألة لم تعد ترتبط بتغيير الرؤساء الأمريكيين بقدر ما ترتبط بحدوث تحول «مؤسسي» وليس شخصياً في طبيعة الرؤية الاستراتيجية للدور الأمريكي في منطقة الخليج العربي، بدليل أن فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب لم تشهد تقارباً مع الشركاء الخليجيين كما كان الحال في السابق، وإن شهدت نوعاً من التفهم الأمريكي لوجهة النظر الخليجية بشأن مرتكزات الأمن والاستقرار الإقليمي، ولا سيما فيما يتعلق بالتهديد الإيراني، وإن كان هذا «التفهم» قد جاء على أرضية عدم اقتناع ترامب بالاتفاق النووي من الأساس وليس ارتباطاً أو دعماً لموقف الشركاء الخليجيين.
السؤال الذي يجب على الجميع في منطقتنا الإجابة عليه هو: ماذا حدث؟ وأقصد هنا في محركات وديناميات الشراكات الاستراتيجية القائمة بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة كي يمكن بناء مقاربات واقعية قادرة على لعب دور «القاطرة» الجديدة لهذه الشراكة المهمة لكلا الطرفين، والتغلب على أي سوء فهم أو شكوك جراء عدم وضوح منطلقات كل طرف في إعادة صياغة أسس هذه الشراكة.
في البحث عن إجابات وردود على الكثير من التساؤلات المثارة في هذا الشأن، علينا التسليم بحدوث تغير نسبي في الرؤية الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة الخليج العربي، وذلك بسبب عوامل مثل: النفط الصخري وبروز التحدي الاستراتيجي الصيني بشكل متزايد وغير ذلك، ولذا لا يمكن الاستسلام للفكرة القائلة بأن إدارة الرئيس بايدن تعيد إنتاج مواقف الرئيس الأسبق أوباما بما يتجاهل «المؤسسية» التي تدار بها السياسة الخارجية الأمريكية، وأنها ليست وقفاً على رؤية سيد البيت الأبيض سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، فالرئيس بالأخير ليس مطلق اليدين في توجيه البوصلة كما يشاء، بل لديه هامش حركة سياسي وعسكري يصعب تجاوزه، بحيث يبقى مقيداً بشكل كبير بأدوار وصلاحيات وسلطات مؤسسات أخرى في مقدمتها الكونجرس، ناهيك عن المؤسسات الأمنية المخولة بناء الرؤية الاستراتيجية الأمريكية عالمياً، بما لا يسمح بتجاوز خطوط حمر معينة لدرجة الإضرار بالمصالح العليا الأمريكية.
في ضوء ما سبق، هل يمكن القول إن الولايات المتحدة، وتحديداً إدارة الرئيس الحالي جو بايدن تتجه للتضحية بحلفائها وشركائها في دول مجلس التعاون من أجل العودة للاتفاق النووي مع إيران؟ الإجابة بالقطع لا، إذ إن شبكة المصالح الاستراتيجية الضخمة والمعقدة التي تربط واشنطن بشركائها في دول مجلس التعاون، وبشكل تبادلي مشترك، لا يمكن أن تدفع أحد للقول بإمكانية تفكك هذه الشراكة أو حتى ضعفها، وانحسار أهميتها، ولكن المنطقي في هذه الحالة هو وجود حالة من القلق - لاسيما من جانب دول مجلس التعاون - حتى يمكن التوصل إلى تفاهمات وأسس جديدة لهذه الشراكة في ضوء المعطيات الاستراتيجية التي ينتجها الواقع المتغير سواء للولايات المتحدة نفسها، أو المشهدين الإقليمي والعالمي، ناهيك عما يرتبط بدول مجلس التعاون نفسها، إذ لم تعد نظرة هذه الدول وشبكة تحالفاتها الدولية على حالها، فهناك واقع جديد للسياسات الخارجية لهذه الدول، جماعياً وفردياً، بظهور شراكات استراتيجية جديدة مع قوى دولية وإقليمية واقتصادات صاعدة في مقدمتها الصين وروسيا وكوريا الجنوبية والهند والاتحاد الأوروبي وغيرها، ناهيك عن حدوث طفرات هائلة في تخطيط وبنيوية هذه الدول باتجاه الاندماج في حركة التطورات التقنية والتكنولوجية العالمية ولعب دور تنافسي مؤثر في الحراك العالمي في الصعد التقنية والاقتصادية والتنموية؛ فلم يكن أحد يتصور قبل سنوات قلائل هذا الحراك والتعاون المثمر بين الإمارات وإسرائيل - على سبيل المثال - في المجالات العلمية والتكنولوجية والصناعية والصحية والزراعية وغيرها، وبالتالي فالمنطقة تعيش واقعاً جيوسياسياً جديداً، والأمر لم يصل لمنتهاه بعد، وهناك حراك استراتيجي وتوقعات قد تشق طريقها للنور في الأمد المنظور، ما يعني أن فكرة الشراكات الأحادية مع قوة كبرى وحيدة لم تعد واقعية، فالتعددية سمة المرحلة، بكل ما يتطلبه ذلك من متطلبات والتزامات وتغيرات في الرؤى والمصالح وأيضاً السلوك السياسي والاقتصادي وحتى العسكري والأمني.
الشواهد جميعها تؤكد أن المنطقة، بل والعالم أجمع، يشهد تغيرات استراتيجية ملموسة، والأمر هنا لا يقتصر على اتفاقات مهمة للغاية بين دول عربية وإسرائيل لإقامة علاقات رسمية ثنائية، فهناك حلحلة في التوترات والأزمات القائمة بين تركيا ودول عربية كبرى ومؤثرة مثل مصر والسعودية والإمارات، وهناك تقارير إعلامية - لم يتضح صحتها - تشير إلى وساطة عراقية لتقريب وجهات النظر السعودية ـ الإيرانية، وهناك اتفاق مصالحة يمضي - ولو بوتيرة بطيئة - بين دول «الرباعي» العربي وقطر، وهناك حلحلة باتجاه تسوية الأزمتين السورية والليبية، وهناك عزم سعودي واضح من أجل تسوية الأزمة اليمنية سياسياً، وهناك حراك روسي للتقارب مع دول المنطقة وغير ذلك الكثير مما يمكن اعتباره مقدمات ستسهم من دون شك في رسم ملامح عالم مابعد «كورونا».
الحقيقة إذاً أن الشراكة الأمريكية ـ الخليجية ستبقى مهمة للطرفين، ومن الصعب على أي منهما التضحية بها، فدول «التعاون» تبقى رقماً مهماً وصعباً ليس فقط في أسواق الطاقة العالمية، ولكن أيضاً في الاقتصاد العالمي الذي يحتاج إلى ضخ استثمارات هائلة في السنوات القلائل المقبلة لمعالجة آثار تفشي وباء «كورونا»، وعلينا التسليم بأن إدارة الرئيس بايدن لملف العودة للاتفاق النووي مع إيران ليس المتغير الوحيد الذي يتحكم في علاقات بلاده مع دول مجلس التعاون، ولا سيما أن فكرة العودة نفسها - رغم دلالاتها التي لا يمكن تجاهلها - لا توفر رد كاف على الكيفية التي تسعى من خلالها واشنطن للتصدي للتهديدات والخطر الإيراني، فلا يزال هناك الكثير الذي يفترض عمله في مرحلة ما بعد العودة الأمريكية للاتفاق.
ويشير تحليل مواقف إدارة الرئيس بايدن في الآونة الأخيرة إلى العودة تدريجياً للواقعية الأمريكية، والتخلي تدريجياً أيضاً عن «حماسات» الحملة الانتخابية، وعلينا هنا التذكير بتصريح وزير الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن الذي قال فيه «إن الولايات المتحدة ستكون بحاجة إلى مواصلة العمل مع السعودية «سواء أحببنا ذلك أم لا»، مؤكداً أن المملكة تبقى شريكاً مهماً لبلاده في العديد من النواحي، وعلينا أن نعمل مع قادة من جميع أنحاء العالم»، وهو تصريح يلتقي مع تصريح آخر مهم أدلى به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قال فيه إن سياسة بلاده الخارجية قائمة على مصالح المملكة، مشيرا إلى أن هناك توافقا سعودياً مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بنسبة 90 %، وأن «الولايات المتحدة شريك استراتيجي» للسعودية، وهو ما يعني أن الطارىء الجديد على الشراكة الاستراتيجية الأمريكية مع دول المنطقة هو فقط هامش الاتفاق والاختلاف، الذي قد يزيد أو يقل، كما قال سمو ولي العهد السعودي، وهذه هي طبيعة العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة، حيث المرونة باتت عنصراً أساسياً لازماً لإدارة العلاقات بين الشركاء، والكل يرى مدى عمق الخلافات بين حلفاء الأطلسي من دون أن يعني ذلك طي صفحة الشراكة أو التفكير في انهائها.
دول مجلس التعاون بات لها طيف متعدد وفضاء دولي واسع من الشراكات الاستراتيجية، والولايات المتحدة تبقى طرفاً أساسياً ومهماً للغاية في إطار ذلك، ولا يمكن لأحد الطرفين فض الشراكة القائمة بينهما ليس فقط لأنه لا سبب وجيه يدعو لذلك، ولكن أيضاً لأن مصالحهما المشتركة لا تزال تفرض استمرارها.