د. خالد عبدالله الخميس
كلنا كبشر فطرنا منذ طفولتنا حتى بلوغنا الذروة مع العمر على تكرار التأمل في ظاهرتين: ظاهرة الكون وظاهرة النفس، وكثيراً ما تأخذنا تلك التأملات إلى أفكار وخيالات في غاية الغرابة، ونظن أثناء تأملاتنا أننا متفردون فيها عن باقي البشر، والواقع أننا نحن البشر نشترك ونجتر محتوى تأملاتنا بشكل متشابه، أما أولئك المتفردون بمحتوى تأملي فريد، خرجوا باستنتاجات لامعة وبديعة أضافت للإنسانية كشوفات علمية عززت نهضة البشرية، أمثال نيوتن وأينشتاين وماكسويل على صعيد التأمل الكوني، وأمثال واطسون وفرويد على صعيد التأمل النفسي. ففي عالم الكون تأمل نيوتن (عام 1687) سقوط التفاحة بشكل مختلف؛ وقاده ذلك التأمل للخروج بنظرية الجاذبية البديعة، وأسس على ضوئها قواعد الفيزياء الكلاسيكية، وأيضاً تأمل أينشتاين البوصلة في صغره والضوء في شبابه بشكل مختلف مما قاده للخروج بالنظرية النسبية (عام 1914).
إن الفيزياء الكلاسيكية التي وضع أركانها نيوتن من خلال قوانين القوى الثلاثة ودخول ظاهرة الجاذبية كبعد جديد رسمت وبلا شك القواعد العامة لعلم الفيزياء، وساهمت في إيجاد حلول رياضية وهندسية لكثير من الصناعات والإنشاءات، ابتداءً بتصميم أضخم المشاريع وناطحات السحاب والجسور الضخمة وانتهاءً بأصغر المشاريع كجهاز مثبت تقويم الأسنان، ومع هذه الفوائد الجمة لفيزياء نيوتن فقد شككت النظرية النسبية العامة (عام 1714) في قدرة تلك القوانين في تفسير ما يجري في الكون، باعتبار أن الكون في صورة منحنية ويحكمه بعد رابع.
وطبقاً لمبدأ انحناء الكون لم يعد قانون الجاذبية الذي نصت عليه الفيزياء النيوتنية هو القانون المناسب لتفسير القوى التي تربط بين الكواكب والأجرام السماوية وإنما يحكمها قانون انحناء الكون الذي تخيله أينشتاين، كذلك لم يعد الكون يخضع لعامل المكان الذي يقتصر على ثلاثة أبعاد: طول، عرض، ارتفاع، وإنما له بعد رابع حقيقي وهو الزمان، وهكذا تؤكد النسبية على اندماج المكان والزمان ليكونا «الزمانكان» الذي هو القانون الذي يحكم حركة الأجرام الكونية. والحاصل أن الكون الذي ندركه الآن يختلف في مضمونه مما عليه الواقع، وأن المتوغلين في النظرية النسبية يرون الكون بمنظار يختلف عما يراه الآخرون.
وتتوالى النسبية في الطعن في مسلماتنا نحن البشر في رؤيتنا للطبيعة والكون، حينما عمدت لدمج الطاقة والكتلة باعتبار أنهما وجهان لعملة واحدة، فكتلة الذرة تكتنز بالطاقة، وهذه الطاقة هي من تصنع الكتلة، في معادلة متمردة تدعو الفكر الإنساني للتشكيك في جميع المسلمات الكونية والقوانين الفيزيائية الكلاسيكية.
ولقد كانت النظرية النسبية في بداية مهدها خارجة عن إطار البرهان المشاهد حتى أُثبتت علمياً عبر العالم الفلكي الإنجليزي آرثر ادينجون عام 1919 أي بعد خمسة أعوام من خروج النظرية النسبية، وكما أكد اينشتاين أن الكون المنحني يقتضي بأن الضوء منحن أيضاً. وطبقاً لما رصدته مراصد أدينجون الفلكية في مناسبة لكسوف الشمس بأن الضوء بالفعل يسير في مسار منحن وليس في مسار خطي. وتوصل أدينجون إلى أن زاوية انحناء الضوء هي 1.7 ثانية قوسية وهي نفس القيمة التي توصلت إليها أينشتاين في معادلة النظرية النسبية. وبنظرية انحناء الكون تم التخلي عن الاعتقاد بأن الجاذبية التي اقترحها نيوتن هي من تشكل القوة التي تحافظ على ربط الكواكب فيما بينها.
ويبقى مع وجود التشكيك في قوانين نيوتن أن تطبيقاتها على الأرض والكون لا حصر لها ولا تقارن بتطبيقات نظريات أينشتاين، كما أن التقدم الصناعي والعمراني الذي نعيش خياراته الآن ومن قبل يدين بالفضل لقوانين نيوتن بالمقارنة بالنظرية النسبية محدودة التطبيقات إلا أن ما ميز النظرية النسبية ليس تطبيقاتها وإنما لكونها أخرجت الفكر الإنساني من قمم الرؤية الكلاسيكية للظواهر الفيزيائية أو الظواهر غير الفيزيائية إلى أن منحت العقل جرأة ليعيد التفكير في أي مسلمة لأي ظاهرة مهما كانت كينونتها.
ويضمر التوجه للتمرد على المسلمات عند أينشتاين، شخصيته المتميزة بالمتمرد على المسلمات، حتى في الجامعة فلم يكن طالباً منتظماً في حضور المحاضرات وكان من طبعه خلق مشاكل حوارية مع أساتذته عند مناقشاته، كونه يستند في نقاشاته على خيالاته للظواهر الفيزيائية، وهذه النقاشات المبنية على تلك الخيالات تُخرج دفة النقاش عن إطاره المعتاد مما يحدث سوء الفهم بين الطرفين. وأكثر من هذا أن أينشتاين لا يحبذ التجارب الفيزيائية الروتينية، ولهذا شق طريقه فيما بعد نحو الفيزياء النظرية التي كانت في مهدها حينذاك بعد أن تجردت الفيزياء النظرية من وساوس البارافيزياء Paraphysis. ونتيجة لأن أينشتاين كان طالباً متمرداً فقد ضيع على نفسه الحصول على توصيات أساتذته وضيع على نفسه فرصاً وظيفية أكاديمية مرموقة. وبعد وصول أينشتاين للنظرية النسبية الخاصة عام 1905 ومن ثم النظرية النسبية العامة 1914 تأكد لدى أساتذته أن تمرده لم يكن بدافع العناد والعصيان بقدر ما كان بدافع التفكير خارج إطار الصندوق.
والنقطة التي يستوجب التأكيد عليها كما بدأنا بها حديثاً هي أن أهم مؤثر يخرج التفكير عن إطاره التقليدي هو صفة التأمل والخيالات في مسار مختلف وبديع وهي التي تثري الجانب الفلسفي للظاهرة وتستحث الفكر لخلق أفكار مستجدة بأبعاد غير مسبوقة، كحال البعد الرابع عند نيوتن في صورة الجاذبية وحال البعد الرابع عند أينشتاين في صورة الزمانكان.
ومن عجائب الصدف أن ظهور موضوع البعد الرابع للكون لأينشتاين تزامن مع ظهور البعد الرابع للنفس، فإن كانت النفس يحكمها ثلاثة أركان: الأفكار والانفعالات والسلوك، فإن البعد الرابع في المذهب النفسي التحليلي يتمثل في «اللاشعور» الذي وضعه فرويد، وفي عشرات القرن العشرين وما بعدها، اعتبر «اللاشعور» هو الحلقة المجهولة في عالم النفس وهو البعد الرابع للكيان النفسي، وعليه بنيت آمال لفكّ جميع ألغاز النفس، وآمال أخرى باجتثاث أي اختلال نفسي مهما بدا معقداً. وهكذا اعتبرت التحليلية الفرويدية في بدء مهدها توجهاً متمرداً وثائراً على الاتجاهات النفسية السائدة ذلك الوقت، وكأن التحليلية ببعدها «اللاشعوري» تمثل حركة تصحيحية تشبه بالحركة التصحيحية التي قامت بها الفيزياء النسبية لأينشتاين على الفيزياء الكلاسيكية لنيوتن.
ومن محاسن الصدف أيضاً أن يتقابل المتمردان: فرويد النفسي وأينشتاين الفيزيائي على طاولة واحدة في عام 1927 في برلين، ودار بينهما حديث طويل لكنهما لم يصلا إلى وفاق علمي مشترك، وفي هذا عبر فرويد بقوله: «إن أينشتاين يفهم في علم النفس بقدر ما أفهم أنا في الفيزياء». ويظهر أن الوفاق كان يكمن في التصورات السياسية حول وضع الأمة اليهودية التي ينتميان إليها.
ومع تسارع انتشار نظريات فرويد في الأوساط العلمية والطبقة المثقفة بشكل لافت إلا أنه لم يمض ثلاثة أو أربعة عقود على رواجها حتى تم التشكيك بها من قبل مناصريها وذلك لفشلها في تفسير جميع أبعاد النفس، وفي الوقت الذي خفت فيه نجم فرويد ازدادت نجومية أينشتاين في السطوع وازداد الإقبال على نظريته النسبية في أمصار العالم كافة.
ويجدر بالذكر أن أينشتاين عندما قاده تمرده لكشف متفرد كان تمرده الناجح هو حالة استثنائية إذا ما قورنت بمحاولات عديدة فاشلة قادها فيزيائيون متمردون أو نفسانيون متمردون، وكان أكثر هؤلاء حظاً هو من بارك أطروحته ثلة من جماعة قليلة من المريدين.
وبعد التشكيك في عالم «اللاشعور» كبعد نفسي رابع ظلت الساحة النفسية خالية من فلسفة البعد الرابع حتى ظهرت حركة «الما ورائية» أو الميتا Meta، فإن كانت مكونات النفس الثلاث - وهي التفكير والانفعال والسلوك - فإن الميتا يمثل المكون النفسي الرابع الذي يمكنه مراقبة تلك المكونات ويتداخل معها في مكون واحد موحد.
وتأتي إحدى صور «الميتا» في قالب الميتاكوقنشن Metacognition باعتبار أن هنالك قوة نفسية تستطيع مراقبة الأفكار والهيمنة عليها، وتأتي صورة الميتا على قالب ميتا مود أيضاً Meta-mood باعتبار أن هنالك قوة نفسية تستطيع مراقبة حركة الانفعال وتهيمن عليها، وأياً يكن صورة «الميتا» فهي في الأخير تهدف لإخراج النفس من القبضة الثالوثية (الأفكار والمشاعر والسلوك) إلى رباعية الاندماج مع البعد «الميتاسيكولوجي»، كما اندمج بعد الزمانكان في معادلة الكون.
وما يجعل الحاجة لوجود بعد نفسي رابع أو بعد نفسي خامس هو عجز النظريات الحالية في سبر أغوار ظواهر النفس من جانب تبسيط كينونتها لمكونات فيزيقية.
إن التصور الثنائي الديكارتي Cartesian Dualism بأن الكينونة النفسية هي جسد وعقل أو دماغ وعقل لم تصمد طويلاً إذ تمت التشكيك بالمذهب الديكارتي من قِبل فيزيولوجي الأعصاب باعتبار النفس كائناً أحادياً Monolism ، وعليه خرجت تصورات عدة انتهت باختزال كينونة مشاعر النفس وأحاسيسها بالتركيز على كينونة الوعي، ومع هذا ملا زالت معادلاتها مع النفس في غاية الغموض في مستواها الفيزيقي، فمشاعرنا بآلامها وإمتاعها، وأحاسيسنا بسمعها وبصرها، لا زال قانونها الفيزيقي مبهماً، كما كان لغز حقيقة الضوء مبهماً في يوم ما.
ولتوضيح القصد يستوجب الاستطراد في تفصيل الحديث عن فك لغز حقيقة الضوء، فلقد كان كيان الضوء - فيما مضي - غير قابل للتفسير الفيزيقي وكانت القوانين الفيزيقية عاجزة عن كشف ماهيته. ولقد شكلت حقيقة الضوء حتى القرن التاسع عشر لغزاً محيراً لا يقل عن لغز الوعي اليوم، ولقد ظل علماء الفيزياء عصوراً عدة ينقبون عن محتوى المادة التي تكون الضوء ولكنهم لم يعثروا على ذرات أو إلكترونات أو جسيمات لها كتلة مكونة له، وهكذا ظنوا أن الضوء هو كيان غير مادي أو حالة من الميتافيزيقا.
ولما جاء ماكسويل الذي تتلمذ على فرداي بفكرة أن الضوء رغم أنه خالٍ من الجسيمات ذات الكتلة لكنه عبارة عن حالة فيزيائية تتمثل في تداخل فريد بين موجات كهربائية وموجات مغناطيسية وأطلق على تلك الحالة الفيزيائية بالموجات الكهرومغناطيسية التي أخضعها لقوانين فيزيائية تضبطها. وهكذا توسعت مدارك الفيزيائيين لتفسير كثير من الظواهر الفيزيائية التي كان تفسيرها مبهماً، بدءاً بالموجات الطويلة (موجات الراديو) وانتهاءً بالموجات القصيرة (أشعة قاما) التي تندرج كينونتها تحت سقف خصائص الموجات الكهرومغناطيسية. وبكشف الموجات الكهرومغناطيسية وسعة تطبيقاتها عُد مكتشفها جيمس ماكسويل من Top Ten وثالث أفضل الفيزيائيين واسمه يأتي بعد أينشتاين أولاً ونيوتن ثانياً.
وما جعل الضوء وكافة الأشعة الكهرومغناطيسية مبهمة في سالف العهد غياب المكون الجسيمي للضوء، ومن لحظة معادلة ماكسويل تحولت النظرة للضوء باعتباره ظاهرة ميتافيزيقية إلى اعتباره ظاهرة فيزيقية، وبهذا الاكتشاف تنحى الفلاسفة عن استخدام مصطلح المادية Materialism كونه ضيقاً إذ يشير مصطلح «المادية» للأشياء المحسوسة ذات البناء الجسيمي ليحل محله مصطلح موسع وهو الفيزيقية Physicalism الذي يشير لأي ظاهرة يمكن إخضاعها للقوانين الفيزيائية بغض النظر عن كونها ذات تركيب مادي جسيمي أم لا، فحال الضوء وسائر الموجات الكهرومغناطيسية وكذا حال الجاذبية تفتقد للمكون المادي ولكنها تخضع للقانون الفيزيائي.
وعلى نفس التوجه الذي مكّن من حلّ معضلة الضوء باعتباره موجات كهرومغناطيسية، عجز الباحثون عن حل معضلة الوعي، باعتباره مكوناً لا يخضع للقوانين الفيزيائية، ولا زال الوصف الدارج عند النفسيين والفلاسفة أن الوعي هو عملية تندرج تحت صنف الكواليا Qualia بوصفها خبرة شعورية مجردة من بنائها الفيزيقي.
وكجملة اعتراضية ينبغي الإشارة للتفريق بين الوعي كحالة قابلة لأن تكون فيزيقية والروح كحالة ميتافيزيقية بدليل من قوله تعالى {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}. ومن هنا تجاوزنا الدخول في غياهب وغيب الروح باعتبارها جوهرة ميتافيزيقية، إذ إن المقصد بظاهر الوعي التي هي أس المعضلات العلمية حتى الآن يتمثل في عدد من التعريفات، منها ما سبق أن عرفته بأن الوعي عبارة عن تحول قائمة من التنبيهات الفيزيولوجية إلى خبرة شعورية، تتحسس وتعقل.
إن الحديث عن موضوع وكيان الوعي لم يعد ملكاً للنفسيين فحسب؛ لأن النظريات النفسية عجزت عن كشف كيانه حتى في ظل مقترحات البعد الرابع للنفس، سواء مذهب اللاشعور أو مذهب الميتا، وتنافست حوله تخصصات عدة، كلٌ يدعي وصلاً بموضوع كينونة الوعي، فعلماء الأعصاب والطب والتخدير والفلسفة والفيزياء النظرية بما في ذلك ميكانيكا الكم، كلهم دخلوا على تلك الظاهرة، وكلهم يتنافس على فك لغزها.
ورغم أن فيزولوجي الأعصاب جندوا كل خبراتهم وأجهزتهم للتنقيب عن سر كيان الوعي في الدماغ إلا أن تركيزهم دائماً ما ينصب على التأكيد على نصرة المذهب الاختزالي Reductionism حيث تحويل الوعي إلى كينونات عصبية أو بيوكيميائية أو كهربائية، إلا أن الكيفية التي تتحول فيه تلك الكينونات إلى خبرات حسية عقلية واعية لا زال مبهماً، ولا زال فهم حالة اقتران المنظومات الطبيعية مع الخبرة الواعية وضم القوانين النفسية بالفيزيقا لتنبت شكلاً لـ فيزيقانفسية Psychophysical متعذراً.
ولم يكن تركيز الفيزيولوجيين العصبيين إلا على كشف تمركز الوعي في الخارطة الدماغية حيث ترسيخ مبدأ الوظيفية Function-vs-Organ دون المساس بفك ترميزه الوعي ذاته، ولهذا لم تصل الاختزالية إلى مستويات تفسيرية لحد الذرة أو الإلكترون أو الفوتون أو ما هو تحت الفوتون.
ومن هنا برز توجه قوي فيزيولوجي يدعو للتركيز على فك شفرة الوعي عند الحيوانات البدائية وذلك لأجل تبسيط دراسة جهاز الوعي لدى الإنسان. وأبسط صور جهاز الوعي موجودة في الحيوانات البدائية التي لا تمتلك إلا حساً واحداً (نوعاً واحداً من المستقبلات الحسية)، مثل تلك التي لا تستجيب إلا لمثير معين كأن يستجيب جهاز الوعي لصوت الطنين دون دخول ذلك في عملية عقلية معقدة، ويرتقي الوعي في الحيوانات الأكثر من البدائيات تطوراً كالحشرات، فالذباب مثلاً يعي الطعام السكري من خلال غمس رجليه في الطعام، وحيث إن أسفل رجليه يحوي مستقبلات ذوقية فاستثارتها هي ما تدفعه لأن يتغذى دون أن يتدخل في جهاز الوعي عملية عقلية.
ومن هنا رأى الفيزيولوجيون أن الوعي هو عبارة عن تآزر عدة استجابات واعية في وظيفة واحدة، وقال تشالمرز Chalmers إن الوعي البصري أخذ جانب تعقيده بسبب أنه خبرة واعية لعدة استجابات لكنها تبدو وكأنها استجابة واحدة، ومن هنا فلا زالت الخبرة الواعية البصرية مرشحة لأن تكون النافذة لحل معضلة الوعي.
وفي الوقت الذي وضع الفيزيولوجيون الرهان على حل أصغر وحدة من وحدات الوعي المتمثلة في أصغر جهاز واعٍ لأصغر الحيوانات، أو تحليل الخبرة الواعية إلى كينونات صغرى واعية، لم يقدهم ذلك إلا إلى مزيد من الاختزالية الوظيفية دون فك قفل وعي المادة.
وإن كان دخول الفيزيولوجيين على قضية الوعي له ما يبرره، لكنه لم يدر بخلد أحد أن يدخل على سكة التفتيش عن كيان الوعي الفيزيائي، حيث جندت الفيزياء النظرية جلّ اهتمامها في الوقت الراهن لدراسة فيزيقية الوعي، والأبحاث الفيزيائية الجديدة ركزت على البوابة الكهرومغناطيسية لعلها تفك لغزه وأدرجوا مع البوابة الكهرومغناطيسية كينونات أخرى للمادة. ورغم أن البحث لا زال جارياً على قدم وساق إلا أن الوعي ككيان مستمر في عناده وعصيانه وغموضه على الكل.
ومن أجمل ما عبّر به أحد الفيزيائيين النظريين عن الوعي هو وينبرق Weinberg في كتابه «أحلام النظرية النهائية»، وساق في معرض حديثه عن الوعي قائلاً: «سيأتي يوم قريب يمكن فيه وضع إطار يجمع جميع القوى الفيزيائية تحت وحدة موحدة، لكن كيان الوعي سيظل عصياً على الجميع».
وبالجملة، إن البحث في موضوع الوعي ليس باعتباره كواليا ذا معنى ميتافيزيقي وإنما باعتباره جسماً ذا كيان فيزيقي، هو موضوع لا زال مبهماً، وجدير لمن أراد أن يشبع فضول عقله بدراسة هذا الموضوع المثير للجدل، وأجمل ما فيه أنه يسمح للمتأملين بأن يطلقوا عنان التأمل الفلسفي إلى أبعاد غير محدودة، فهل يا ترى نسمع عن حالة جديدة من الحالات الفيزيقية التي لا تدخل في تصنيف الذرات أو الإلكترونات أو تصنيف الموجات الكهرومغناطيسية، لتكون فتح ستار عن حالة من المادة لم تعرف بعد؟ أم إن الوعي سيستمر في كونه كياناً ميتافيزيقياً عصياً حتى يأتي أينشتاين جديد.