لا يوجد في الحياة وسط، إما علم أو جهل، فاللهم احفظنا من الجهل والجهالة، وأنر عقولنا وقلوبنا بأنوار العلم، ولذلك كانت دعوة الله تعالى لنبيه وصفيه ومختاره رسولنا الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة والعلم، وذلك في قوله بمحكم قرآنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
فمن سعى في طلب العلم جعله الله تعالى من الشهداء على الحق بوحدانية الخالق جل شأنه، كما في قوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}.
ولذلك حثتنا ثقافتنا الإسلامية على طلب العلم وجعلته فريضة ونوراً وطريقاً إلى الجنة، كما عبر عن ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (منْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ).
وأبدع أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم
لم يبن ملك على جهل وإقلال
هذه الحقيقة الكونية لأهمية العلم فطنت إليها شعوب العالم قديماً، فظهرت الجامعات قبل ألف عام، بالعالم شرقاً وغرباً والمفاجأة أن عالمنا العربي والإسلامي قد سبق شعوب العالم إلى إنشاء هذه الجامعات التي لا تزال تواصل رحلتها العلمية حتى يومنا هذا.
وتعد جامعة الزيتونة أول جامعة في العالم الإسلامي وهي جامعة وجامع بمدينة تونس. ويرجح المؤرخون أن من أمر ببنائه هو حسان بن النعمان عام 79 هـ وقام عبيد الله بن الحباب بإتمام عمارته في 116 هـ 736م.
ويمتاز بجمال معماره ولعب دوراً حضارياً وعلمياً رائداً في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب، وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية بإفريقيا أشاعت روحاً علمية جادة ومنهجاً نقدياً حديثاً على أيدي مؤسسها علي بن زياد وأسد بن الفرات والإمام سحنون صاحب المدونة التي رتبت المذهب المالكي.
تخرج من الجامعة الزيتونية في العهد الحفصي الفقيه المفسر والمحدث ابن عرفة التونسي وابن خلدون المؤرخ ومبتكر علم الاجتماع، وابن عرفة والتيجاني وأبو الحسن الشاذلي وإبراهيم الرياحي وسالم بوحاجب ومحمد النخلي ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير، ومحمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر ومحمد العزيز جعيط والمصلح الزعيم عبد العزيز الثعالبي وشاعر تونس أبوالقاسم الشابي صاحب (ديوان أغاني الحياة) وطاهر الحداد صاحب كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع والتعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة، ومن حلقاته العلمية برز المصلح الجزائري عبد الحميد بن باديس والرئيس الجزائري السابق هواري بومدين وغيرهم كثير من النخب التونسية والمغاربية والعربية.
وتصنف جامعة القرويين بالمغرب كأقدم جامعةٍ في العالم، ومما يثير الفخر أن من أسستها سيدة مسلمة هي فاطمة الفِهري القيراوني، وهو ما يؤكد إيمان المرأة العربية والمسلمة بأهمية العلم في العصور القديمة والعمل على نشره.
صنفتها موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتبارها أقدم جامعة في تاريخ العالم على الإطلاق، حيث تم تأسيسها في العام 859 ميلادياً. وتعد أول مؤسسة علمية أنشأت الكراسي العلمية المتخصصة والدرجات العلمية في العالم، ما زالت تعمل كمؤسسة أكاديمية في المغرب حتى يومنا هذا، وتخرج منها الكثير جدًا من الرموز الإسلامية، فضلاً عن الكثير من العلماء الغربيين الذين استفادوا بالدراسة في هذه الجامعة.. منهم (سلفستر الثاني) الذي شغل منصب البابوية من العام 999 م إلى العام 1003م..، و(موسى ابن ميمون) الطبيب والفيلسوف اليهودي الشهير في عصره، وابن خلدون وغيرهم.
أما جامعة الأزهر بمصر وهي الأشهر من أعرق الجامعات العربية الإسلامية ولا تزال تواصل دورها في نشر العلم بنظامها التعليمي ودرجاتها الأكاديمية تأسست الجامعة ما بين العامين 970 - 972 ميلاديًّا، إبان فترة الحُكم الفاطمي لمصر..، لتكون قلعةً للعلوم الدينية الإسلامية بمذاهبها المُختلفة، والعلوم الإسلامية، وتطوّرت الجامعة بمرور السنين للتوسع في العلوم العلمية والأدبية المُختلفة.
وتعد الجامعة النظامية بالعراق وإيران، من أقدم الجامعات في الشرق ولعبت دورًا تعليميًا وأكاديميًّا من خلال وجودها في مدينة (أصفهان) في العصور الوسطى، إحدى مُدن إيران حالياً. وأسسها الخواجة نظام المُلك في القرن الـ11 ، ويرجح أنها أسست 1065 ميلادياً بمقر بغداد، نظام هذه الجامعة بفروعها المُنتشرة في البلاد الإسلامية كان يُمثل قيمةً مُبهرةً بالنسبة للأوربيين في ذلك الوقت، والذين بدؤوا في تأسيس الجامعات الأكاديمية تقليدًا للحضارة العربية والإسلامية الزاهرة في هذه العصور، وأن الجامعة النظامية تحديدًا بفروعها وكلياتها المُختلفة تُمثل حجر الأساس للجامعات الغربية الحديثة.
وتظل الكلية النظامية التابعة للجامعة في دُرة البُلدان وقتئذ (بغداد)، هي أشهر فروع هذه الجامعة بلا استثناء، وإن كان لديها أيضًا فروع أخرى في نيسابور، ودمشق، والبصرة، والموصل، وسمرقند.. وغيرها من حواضر البلاد الإسلامية في هذا الزمن.
أخرجت هذه الكلية كبار العلماء مثل: (ابن الجسار) أول من اكتشف أسباب ونتائج مرض الجُذام، وابن الهيثم الفيزيائي المُسلم المعروف مؤسس علم البصريات، وابن رشد، وابن يونس العالم الفلكي الكبير الذي وضع عقارب الساعة قبل جاليليو وغيرهم.
جامعات غربية عريقة
وعلى مستوى العالم الغربي تعد جامعة بادوا (بادوفا) بإيطاليا أسست 1222 ، عندما قرر بعض الطلاب والأساتذة الانشقاق من جامعة بولونيا (الوحيدة فى البلاد وقتئذ)، وتكوين مؤسسةٍ جامعيةٍ أخرى أكثر حريةً وأكاديميةً وتخصصاً.
حتى الآن ما زالت جامعة بادوا (بادوفا) تعمل بنفس القوة والكفاءة والتميز، وتعتبر من أفضل الجامعات الأوروبية الحديثة، حيث وصل تعداد الطلاب بها أكثر من 60 ألف طالب وطالبة.
أما جامعة سالامانكا - إسبانيا فتأسست 1218 ، تُعتبر أقدم جامعة إسبانية على الإطلاق، على الرغم من تأسيس جامعة (بلنسية) قبلها.. إلا أن جامعة بلنسية لم يعد لها وجود اليوم، من أبرز الأدوار التي لعبتها هذه الجامعة، عندما استعان (كريستوفر كولومبوس) مُكتشف العالم الجديد بعُلماءَ وجغرافيين من هذه الجامعة تحديدًا، لمُساعدته في العديد من المهام التي يقوم بها في استكشاف المزيد من الأراضي.
وتأسست جامعة مونبيليه بفرنسا 1150 ميلاديًّا وتعد واحدةً من أهم الجامعات الأوروبية التي تُعنى بالعلوم والتكنولوجيا الحديثة.
أما جامعة أوكسفورد البريطانية، فهي واحدةٌ من أعظم جامعات العالم على مرّ العصور، وساهمت في تخريج عشرات الحاصلين على جوائز نوبل، والجوائز الدولية المميزة في كافة العلوم والآداب والفنون، وتشغل مكانها الدائم من بين أفضل عشر جامعاتٍ سنويًّا.
بينما كانت جامعة باريس منارةً تعليميةً في القارة الأوروبية في فترة العصور الوُسطى.. إلى أن تم تأسيس كلية السوربون كواحدةٍ من الكليات التابعة لها 1257 ، والتي نمَت بسرعةٍ كبيرةٍ في العديد من المجالات العلمية والطبية والفنية، إلى أن تم الاصطلاح على مُسمى الجامعة كلها بأنها جامعة السوربون الجامعة، وتواصل دورها وتصنف ضمن أفضل 20 جامعة في العالم.
وتعد جامعة بولونيا بايطاليا أول جامعةٍ للتعليم العالي الأكاديمي في الغرب كله فقد تأسست 1088 ميلادياً، ولا تزال رائدةً في نظام التعليم الجامعي الإيطالي والأوروبي.
وأخيراً أتمنى أن تعود بلادنا العربية قبلة للعلم والعلماء كما كانت وتعود جامعاتنا لقيمتها التاريخية كما أنني أتمنى أن نؤسس جامعات جديدة بمعنى التأسيس وليس فقط البناء الهش لتكون يوماً ما منارة للأجيال القادمة يحكى بها وتملأ الدنيا كما نتغنى في زمننا هذا بتلك الجامعات التي ذكرتها أعلى.
** **
- سارة طالب السهيل